تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ١٠
قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: * (وسع كرسيه) * الخ " قال: كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره " وقيل: هو العرش نفسه، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: قدرة الله تعالى، وقيل: تدبيره، وقيل: ملك من ملائكته، وقيل: مجاز عن العلم من تسمية الشيء بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل، وحكي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: عن الملك أخذا من كرسي الملك، وقيل: أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة، ففي الكلام استعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي اختاره الجم الغفير من الخلف فرارا من توهم التجسيم، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا، وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعري الكرسي: موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل؛ وفي رواية عن عمر مرفوعا " له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع " وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن اتباع الشارع والتسليم له.
وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه، والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك، وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين، وقد وسع السموات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا، ولا " الأطيط " عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو اجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع، ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين، وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك، وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا، ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى؛ ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب، واشتقاقه من الكرسي - وهو الجمع - ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم، وقيل: كأنه منسوب إلى - الكرس - بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي - كبختي وبخاتي - وفيه لغتان ضم كافة - وهي المشهورة - وكسرها للاتباع والجمهور على فتح الواو والعين، وكسر السين في * (وسع) * على أنه فعل والكرسي فاعله، وقرىء بسكون السين مع كسر الواو - كعلم - في علم، وبفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر - كرسيه - ورفع السموات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده و (السموات والأرض) خبره * (ولا يؤده) * أي لا يثقله - كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - وهو مأخوذ من الأود بمعنى الاعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته، وماضيه آد؛ والضمير لله تعالى. وقيل: الكرسي.
* (حفظهما) *
(١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 ... » »»