ما نزل من القرآن، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل: تسع ليال، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحدا وثمانين يوما ثم مات - بنفسي هو - حيا وميتا صلى الله عليه وسلم. روي أنه قال: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال: " جاءني جبرائيل فقال: اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة " ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري، وأبو عبيد، وابن جرير، والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم آية الربا، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب - كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي - أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عز من قائل:
* (ياأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا ولا تساموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذالكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) *.
* (يأيها الذين ءامنوا) * بالله تعالى وبما جاء منه * (إذا تداينتم) * أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا * (بدين) * فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصرا لأن (تداينتم) يجيء بمعنى تعاملتم بدين، وبمعنى تجازيتم، ولا يرد عليه أن السياق يرفع لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن، وقي: ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب * (اعدلوا هو أقرب) * (المائدة: 8) وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفي به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس، وقيل: ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك * (إلى أجل) * أي وقت وهو متعلق بتداينتم، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل * (مسمى) * بالأيام أو الأشهر، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض * (فاكتبوه) * أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوقف؛ والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه - ثم قرأ الآية - واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض.
* (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا، ومفعول - يكتب - محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للإيذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا للتهمة والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب - أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص - ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا - بكاتب - أو بفعله، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم، فالكلام - كما قال الطيبي - مسوق لمعنى، ومدمج فيه آخر بإشارة النص - وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور