لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الإلهية والمنحة الأزلية، على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى * (إن كنتم مؤمنين) * فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان، ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين، وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك.
* (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بأية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون) *.
* (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) * عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى: * (بآية) * (آل عمران: 49) أي قد جئتكم محتجا، أو متلبسا بآية الخ ومصدقا لما الخ، وإما على * (رسولا) * (آل عمران: 49) وفيه معنى النطق مثله، وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه * (قد جئتكم) * (آل عمران: 49) أي وجئتكم مصدقا الخ. وقوله سبحانه: * (من التوراة) * في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل، ويجوز أن يكون حالا من (ما) فيكون العامل فيه * (مصدقا) * ومعنى تصديقه عليه السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب، وقيل: إن تصديقه لها مجيئه رسولا طبق ما بشرت به * (ولأحل لكم) * معمول لمقدر بعد الواو أي - وجئتكم لأحل - فهو من عطف الجملة على الجملة، أو معطوف على * (بآية) * من قوله سبحانه: * (جئتكم بآية) * (آل عمران: 49) لأنه في معنى - لأظهر لكم آية ولأحل - فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به، أو معطوف على * (مصدقا) * ويلتزم التأويل بما يجعلهما من باب واحد، وإن كان الأول: حالا، والثاني: مفعولا له فكأنه قيل: جئتكم لأصدق ولأحل، وقيل: لا بد من تقدير - جئتكم - فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر.
* (بعض الذي حرم عليكم) * أي في شريعة موسى عليه السلام. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهما فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في " الإنجيل ". وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وهذا يدل على أن " الإنجيل " مشتمل على أحكام تغاير ما في " التوراة " وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض، وذهب بعضهم إلى أن " الإنجيل " لم يخص أحكاما ولا حوى حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وزواجر، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على " التوراة "، وإلى أن عيسى عليه السلام لم ينسخ شيئا مما في " التوراة "، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس، ويحرم لحم الخنزير، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم الأسبوع ومبدأ الفيض، وصلوا نحو المشرق لما تقدم، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الإلهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في " إنجيله " أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعا كبيرا وقال لتلامذته: لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في