لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقيا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا: وترك العطف بناءا على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان، وجوز أبو البقاء كون الظرف منصوبا باذكر مقدرا، وأن يكون ظرفا - ليختصمون - وقيل: إنه بدل من * (إذ) * المضافة إليه، واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة بمدة - فلا تصح هذه البدلية والتزام أنه بدل غلط - غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام، وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال: إنهما في زمان واحد كما يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع أن القتال واقع في أولها مثلا والصلح في آخرها، قيل: ولا يحتاج إلى هذا على الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناءا على ما روي عن الحسن أنها عليها السلام كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها وردت عليها البشرى إذ ذاك، وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه.
* (يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) * كلمة - من - لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة - لكلمة - وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهر وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلا: محض الجود - وعلى ذلك أكثر المفسرين - وأيدوا ذلك بقوله تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (آل عمران: 59)، وقيل: أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة، ففي " التوارة " - في الفصل العشرين من السفر الخامس - أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران - وسينا - جبل التجلي لموسى - وساعير - جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه - وفاران - جبل مكة، وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقا لما أخبر به: قد جاء كلامي، وقيل: لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته. ومن الناس من زعم أن - الكلمة - بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه ويبعده ظاهر قوله تعالى: * (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) * (النساء: 171) ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الأقوال الأخر وإن لم يكن لازما في مثل ذلك، وفي * (يبشرك) * هنا من القراآت مثل ما فيها فيما تقدم * (اسمه) * الضمير راجع إلى - الكلمة - وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن مذكر واسم مبتدأ خبره * (المسيح) * وقوله تعالى: * (عيسى) * يحتمل أن يكون بدلا، أو عطف بيان، أو توكيدا بالمرادف كما أشار إليه الدنوشري، أو خبرا آخر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوبا بإضمار أعني مدحا، وحذف المبتدأ والفعل قيل: على سبيل الجواز ومقتضى ما ذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل الوجوب، وقوله تعالى: * (ابن مريم) * صفة لعيسى وعلى تقدير كونه منصوبا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ومن جعل هذه الثلاثة أخبارا عن المبتدأ أو رد عليه بأن الاسم في الحقيقة عيسى والمسيح لقب؛ و * (ابن) * صفة فكيف جعلت الثلاثة خبرا عنه؟! وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم مطلقا وليس هو بمعنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق، وأن إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب، وقيل: المراد بالاسم معناه اللغوي - وهو السمة والعلامة المميزة - لا العلم.