تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ١٧٣
وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه: * (هذا صراط مستقيم) * تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر - لأن الله - ربي وربكم فاعبدوه - قوله تعالى: * (لإيلاف قريش) * (قريش: 1) الخ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض؛ وجملة * (هذا) * الخ على ما قيل: استئناف لبيان المتقضي للدعوة.
هذا والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة: سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول: قال الله سبحانه: * (وإذ قالت الملائكة) * أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية * (إن الله اصطفاك) * لكمال استعدادك ووفور قابليتك * (وطهرك) * عن الرذائل والأخلاق الردية * (واصطفاك على نساء) * (آل عمران: 42) النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة * (يا مريم اقنتي لربك) * أي داومي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى * (واسجدي) * في مساجد الذل * (واركعي) * (آل عمران: 43) في محاريب الخدوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية، ولله تعالى در من قال: ويحسن إظهار التجلد للعدا * ويقبح إلا العجز عند الحبائب * (ذلك من أنباء الغيب) * أي من أخبار غيب وجودك * (نوحيه إليك) * يا نبي الروح * (وما كنت لديهم) * أي لدى القوى الروحانية والنفسانية، والمراد ما كنت ملتفتا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم * (إذ يلقون) * أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير * (أيهم يكفل) * ويدبر * (مريم) * النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه * (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * (آل عمران: 44) في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرياسة قبل الرياضة وفي حالها * (إذ قالت) * ملائكة القوى الروحانية حين غلبت * (يا مريم إن الله يبشرك) * بمقتضى التوجيه إليه * (بكلمة منه) * جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم * (اسمه المسيح) * لأنه يمسحك بالنور، أو لأنه مسح به * (وجيها في الدنيا) * لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة، ووجيها في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح، أو شريفا مرفوعا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء * (ومن المقربين) * (آل عمران: 45) أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات، وفي الخبر " ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " * (ويكلم الناس) * بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك * (وكهلا) * (آل عمران: 46) بالغا طور شيخ الروح وواصلا وسط الطريق * (قالت رب أنى يكون لي ولد) * مثل هذا * (ولم يمسسني بشر) * وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر * (قال كذلك الله يخلق ما يشاء) * (آل عمران: 47) فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الإلهية، وهذا أن المرادين وبعض المريدين: رب شخص تقوده الأقدار * للمعالي وما لذاك اختيار غافل والسعادة احتضنته * وهو عنها مستوحش نفار * (ويعلمه) * (آل عمران: 48) بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الإلهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن؛ * (و) * يجعله * (رسولا) * * (إلى) * الروحانيين من * (بني إسرائيل) * الروح قائلا:
(١٧٣)
مفاتيح البحث: السجود (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 ... » »»