العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غيره - ولهذا اختير هنا تذكير الفعل - والوصية اسم من أوصى يوصي، وفي " القاموس " أوصاه وصاه توصية - عهد إليه - والاسم الوصاية والوصية وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع الفعل عند الجمهور، أو بالمصدر بناءا على تحقيق الرضي من أن عمل المصدر لا يتوقف على تأويله، وهو الراجح ولذلك ذكر الراجع في بدله، وجوز أن يكون النائب (عليكم) و (الوصية) خبر مبتدأ كأنه قيل: ما المكتوب؟ فقيل: هو الوصية، وجواب الشرط محذوف دل عليه * (كتب عليكم) *، وقيل: مبتدأ خبره * (للوالدين) * والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الاسمية إذا كانت جزاء لا بد فيها منها، والجملة الشرطية مرفوعة بكتب أو (عليكم) وحده، والجملة استئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا يجترىء عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل، والعالم في (إذا) معنى (كتب) والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع، والمعنى توجه خطاب الله تعالى (عليكم) ومقتضى كتابته (إذا حضر) وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، وجوز أن يكون العامل الوصية، وهي وإن كانت اسما إلا أنها مؤولة بالمصدر أو بأن والفعل، والظرف مما يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه، وعدم انفكاكه عنه، ولهذا توسع في الظروف ما لم يتوسع في غيرها، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أول به، وقد كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام، والتقدير تكلف، ولا يرد على التقديرين أن الوصية واجبة على - من حضره الموت - لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت لأن * (أحدكم) * يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى * (إذا حضر أحدكم) * إذا حضر واحدا بعد واحد، وإنما زيد لفظ - أحد - للتنصيص على كنها فرض عين لا كفاية كما في * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) والقول بأن الوصية لم تفرض على من - حضره الموت - فقط بل عليه بأن يوصي، وعلى الغير بأن يحفظ ولا يبدل، ولهذا قال: * (عليكم) * وقال: * (أحدكم) * لأن الموت يحضر أحد المخاطبين بالافتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الاحتضار فكيف يصح أن يقال: فرض عليكم حفظ الوصية إذا حضر أحدكم الموت ولأن إرادة الإيصاء، وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى، واختار بعض المحققين أن * (إذا) * شرطية وجواب كل من الشرطين محذوف، والتقدير: إذا حضر أحدكم الموت - فليوص إن ترك خيرا - فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه، وحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، والشرط الثاني عند صاحب " التسهيل " مقيد للأول كأنه قيل: إذا حضر أحدكم الموت تاركا للخير فليوص، ومجموع الشرطين معترض بين * (كتب) * وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل، ولا يخفى أن هذا الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ - أحد - أنسب بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا ثم مفصلا ووقع الاعتراض بين الفعل وفاعله للاهتمام ببيان كيفية الوصية الواجبة انتهى، وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما تقدم، ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية المواريث كما قاله ابن عباس وابن عمر وقتادة وشريح ومجاهد وغيرهم وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال: " إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية " وأخرج أحمد والبيهقي في " سننه " عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ذلك، وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول انتظمت في سلك المتواتر
(٥٣)