الدر المنثور - جلال الدين السيوطي - ج ٤ - الصفحة ٢٩١
لا يقتبس منها ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين فلما رأى ذلك موسى قال إن لهذه شأنا ثم وضع أمرها على انها مأمورة أو مصنوعة لا يدرى من أمرها ولا بما أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرا لا يدرى أيرجع أم يقيم فبينا هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها فإذا هو أشد مما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر إليها يغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورا ساطعا عمودا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الابصار كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالأرض وسمع الحنين والوجس الا انه سمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما فلما بلغ موسى الكرب واشتد عليه الهول نودي من الشجرة فقيل يا موسى فأجاب سريعا وما يدرى من دعاه وما كان سرعة إجابته الا استئناسا بالإنس فقال لبيك مرارا انى لأسمع صوتك وأحس حسك ولا أرى مكانك فأين أنت قال أنا فوقك ومعك وخلفك وأقرب إليك من نفسك فلما سمع هذا موسى علم أنه لا ينبغي هذا الا لربه فأيقن به فقال كذلك أنت يا إلهي فكلامك اسمع أم رسولك قال بل أنا الذي أكلمك فادن منى فجمع موسى يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه وانقطع لسانه وانكسر قلبه ولم يبق منه عظم يحمل آخر فهو بمنزلة الميت الا ان روح الحياة تجرى فيه ثم زحف على ذلك وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها فقال له الرب تبارك وتعالى ما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي قال ما تصنع بها ولا أحد أعلم منه بذلك قال موسى أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولى فيها مآرب أخرى قد علمتها وكان لموسى في العصا مآرب كان لها شعبتان ومحجن تحت الشعبتين فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكان يتوكأ عليها ويهش بها وكان إذا شاء ألقاها على عاتقه فعلق بها قوسه وكنانته ومرجامه ومخلاته وثوبه وزادا ان كان معه وكان إذا أرتع في البرية حيث لا ظل له ركزها ثم عرض بالوتد بين شعبتيها وألقى فوقها كساءه فاستظل بها ما كان مرتعا وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه قال له الرب القها يا موسى فظن موسى انه يقول ارفضها فألقاها على وجه الرفض ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يرى يلتمس كأنه يبتغى شيئا يريد أخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها عيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن عرقا فيه شعر مثل النيازك وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف فقال خذها بيمينك ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى قال وكان على موسى حينئذ مدرعة فجعلها على يده فقال له ملك أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغنى عنك شيئا قال لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية ثم سمع حس الأضراس والأنياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين قال له ربه ادن فلم يزل يدنيه حتى شد ظهره بجذع الشجرة فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يديه في العصا وخضع برأسه وعنقه ثم قال له انى قد أقمتك اليوم في مقام لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك إذ أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي وكنت بأقرب الأمكنة منى فانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وان معك يدي وبصرى وإني قد ألبستك جبة من سلطان لتكمل بها القوة في أمري فأنت جند عظيم من جنودي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر من نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعده من دوني وزعم أنه لا يعرفني وإني لأقسم بعزتي لولا العذر والحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار فان أمرت السماء حصبته وان أمرت الأرض ابتلعته وان أمرت البحار غرقته وان أمرت الجبال دمرته ولكنه هان على وسقط من عيني وسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحق لي أنى انا الغنى لا غنى غيري فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاص اسمي وذكره بآياتي وحذره نقمتي وبأسي وأخبره انه لا يقوم شئ لغضبي وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو
(٢٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 286 287 288 289 290 291 292 293 294 295 296 ... » »»
الفهرست