تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٦١
وانتصابهما على الحال من ضمير الفاعل، أي حملته ذات كره، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي حملا ذاكره.
* (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *: أي ومدة حمله وفصاله، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصا؛ إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين، وإما أن تلد لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام. فإن زادت مدة الحمل، نقصت مدة الرضاع. فمدة الرضاع عام وتسعة أشهر، وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة. وقد كشفت التجربة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، كنص القرآن. وقال جالينوس: كنت شديد الفحص عن مقدر زمن الحمل، فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة. وزعم ابن سينا أنه شاهد ذلك؛ وأما أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه. قال ابن سينا في الشفاء: بلغني من جهة من أثق به كل الثقة، أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل، ولدت ولدا نبتت أسنانه. وحكي عن أرسطا طاليس أنه قال: إن مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان، فربما وضعت لسبعة أشهر، ولثمانية، وقل ما يعيش الولد في الثامن، إلا في بلاد معينة مثل مصر. انتهى. وعبر عن الرضاع بالفصال، لما كان الرضاع يلي الفصال ويلابسه، لأنه ينتهي به ويتم، سمي به. وقرأ الجمهور: وفصاله، وهو مصدر فاصل، كأنه من اثنين: فاصل أمه وفاصلته. وقرأ أبو رجاء، والحسن، وقتادة، والجحدري: وفصله، قيل: والفصل والفصال مصدران، كالفطم والفطام. وهنا لطيفة: ذكر تعالى الأم في ثلاثة مراتب في قوله: بوالديه وحمله وإرضاعه المعبر عنه بالفصال، وذكر الولد في واحدة في قوله: بوالديه؛ فناسب ما قال الرسول من جعل ثلاثة أرباع البر للأم والربع للأب في قول الرجل: (يا رسول الله، من أبر؟
قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك).
* (حتى إذا بلغ أشده) * في الكلام حذف تكون حتى غاية له، تقديره: فعاش بعد ذلك، أو استمرت حياته؛ وتقدم الكلام في * (بلغ أشده) * في سورة يوسف. والظاهر ضعف قول من قال: بلوغ الأشد أربعون، لعطف * (وبلغ أربعين سنة) *. والعطف يقتضي التغاير، إلا إن ادعى أن ذلك توكيد لبلوغ الأشد فيمكن؛ والتأسيس أولى من التأكيد؛ وبلوغ الأربعين اكتمال العقل لظهور الفلاح. قيل: ولم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. وفي الحديث: أن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول: يأتي وجه لا يفلح. * (قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه) *: وتقدم الكلام على هذا في سورة النمل. * (وأصلح لى فى ذريتى) *: سأل أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنة له، كأنه قال: هب لي الصلاح في ذريتي، فأوقعه فيهم، أو ضمن: وأصلح لي معنى: وألطف بي في ذريتي، لأن أصلح يقتدي بنفسه لقوله: * (وأصلحنا له) *، فلذلك احتج قوله: * (لى فى ذريتى) * إلى التأويل. قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وتتناول من بعده، وهو مشكل، لأنها نزلت بمكة، وأبوه أسلم عام الفتح. ولقوله: * (أولائك الذين * نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) *: فلم يقصد بذلك أبو بكر ولا غيره. والمراد بالإنسان الجنس، ولذلك أشار يقوله: * (أولائك) * جمعا. وقرأ الجمهور: يتقبل مبنيا للمفعول، أحسن رفعا، وكذا ويتجاوز؛ وزيد بن علي، وابن وثاب، وطلحة، وأبو جعفر، والأعمش: بخلاف عنه. وحمزة، والكسائي، وحفص: نتقبل أحسن نصبا، ونتجاوز بالنون فيهما؛ والحسن، والأعمش، وعيسى: بالياء فيهما مفتوحة ونصب أحسن.
* (فى أصحاب الجنة) *، قيل: في بمعنى مع؛ وقيل: هو نحو قولك: أكرمني الأمير في ناس من أصحابه، يريد في جملة من أكرم منهم، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة. وانتصب * (وعد الصدق) * على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، لأن قوله: * (أولائك الذين * نتقبل) *، وعد منه تعالى بالتقبل والتجاوز، لما ذكر الإنسان البار بوالديه وما آل إليه من الخير، ذكر العاق بوالديه وما آل إليه من الشر. والمراد بالذي: الجنس، ولذلك جاء الخبر مجموعا في قوله: * (أولئك الذين حق عليهم القول) *. وقال الحسن: هو الكافر العاق بوالديه المنكر البعث. وقول مروان بن الحكم، واتبعه قتادة: أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، قول خطأ ناشىء عن جور، حين دعا مروان، وهو أمير المدينة، إلى مبايعة يزيد، فقال عبد الرحمن: جعلتموها هرقلية؟ كلما مات هرقل ولى ابنه، وكلما مات قيصر ولى ابنه؟ فقال مروان: خذوه، فدخل
(٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 ... » »»