تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٥٦
أي من العالي على الأرض، أي على وجهها من حيوان أو غيره. ثم وقفهم على عبارتهم فقال: * (أم لهم) *: أي: بل.
* (أم لهم شرك فى * السماوات * ائتونى بكتاب من قبل هاذا) *: أي من قبل هذا الكتاب، وهو القرآن، يعني أن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وبإبطال الشرك، وكل كتب الله المنزلة ناطقة بذلك؛ فطلب منهم أن يأتوا بكتاب واحد يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله. * (أو أثارة من علم) *، أي بقية من علم، أي من علوم الأولين، من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أو على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. والأثارة تستعمل في بقية الشرف؛ يقال: لبني فلان أثارة من شرف، إذا كانت عندهم شواهد قديمة، وفي غير ذلك قال الراعي:
* وذات أثارة أكلت علينا * نباتا في أكمته قفارا * أي: بقية من شحم. وقرأ الجمهور: أو أثارة، وهو مصدر، كالشجاعة والسماحة، وهي البقية من الشيء، كأنها أثرة. وقال الحسن: المعنى: من علم استخرجتموه فتثيرونه. وقال مجاهد: المعنى: هل من أحد يأثر علما في ذلك؟ وقال القرطبي: هو الإسناد، ومنه قول الأعشى:
* إن الذي فيه تماريتما * بين للسامع والآثر * أي: وللمستدعين غيره؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه: فما خلفت به ذاكرا ولا آثرا. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة: المعنى: أو خاصة من علم، فاشتقاقها من الأثرة، فكأنها قد آثر الله بها من هي عنده. وقال ابن عباس: المراد بالأثارة: الخط في التراب، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر تفسيره. الأثارة بالخط يقتضي تقوية أمر الخط في التراب، وأنه شيء ليس له وجه إذاية وقف أحد إليه. وقيل: إن صح تفسير ابن عباس الإثارة بالخط في التراب، كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم. وقرأ علي، وابن عباس: بخلاف عنهما، وزيد بن علي، وعكرمة، وقتادة، والحسن، والسلمي، والأعمش، وعمرو بن ميمون: أو أثرة بغير ألف، وهي واحدة، جمعها أثر؛ كقترة وقتر؛ وعلي، والسلمي، وقتادة أيضا: بإسكان الثاء، وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر، أي قد قنعت لكم بخبر واحد وأثر واحد يشهد بصحة قولكم. وعن الكسائي: ضم الهمزة وإسكان الثاء. وقال ابن خالويه، وقال الكسائي على لغة أخرى: إثرة وأثرة يعني بكسر الهمزة وضمها.
* (ومن أضل ممن) * يعبد الأصنام، وهي جماد لا قدرة لها على استجابة دعائهم ما دامت الدنيا، أي لا يستجيبون لهم أبدا، ولذلك غيا انتفاء استجابتهم بقوله: * (إلى يوم القيامة) *، ومع ذلك لا شعور لهم بعبادتهم إياهم، وهم في الآخرة أعداء لهم، فليس لهم في الدنيا بهم نفع، وهم عليهم في الآخرة ضرر، كما قال تعالى: * (سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم) *. وجاء * (الله من لا يستجيب) *، لأنهم يسندون إليهم ما يسند لأولي العلم من الاستجابة والغفلة؛ وكأن * (من لا يستجيب) * يراد به من عبد من دون الله من إنس وجن وغيرهما، وغلب من يعقل، وحمل أولا على لفظ من لا يستجيب، ثم على المعنى في: وهم من ما بعده. والظاهر عود الضمير أولا على لفظ * (من لا يستجيب) *، ثم على المعنى في: وهم على معنى من في: * (من لا يستجيب) *، كما فسرناه. وقيل: يعود على معنى من في: * (ومن أضل) *، أي والكفار عن ضلالهم
(٥٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 ... » »»