تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٦٧
السمع؛ فلما بعث الرسول، حرست السماء، ورمي الجن بالشهب، قالوا: ما هذا إلا أمر حدث. وطافوا الأرض، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بوادي نخلة، وهو قائم يصلي؛ فاستمعوا لقراءته، وهو لا يشعر؛ فأنبأه الله باستماعهم.
* (الثالثة الاخرى) *: أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال: (إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني)، قالها ثلاثا، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود، قال: لم يحضره أحد ليلة الجن غيري. فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون، خط لي خطا وقال: (لا تخرج منه حتى أعود إليك)، ثم افتتح القرآن. وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم تقطعوا تقطع السحاب، فقال لي: (هل رأيت شيئا)؟ قلت: نعم، رجالا سودا مستثفري ثياب بيض، فقال: (أولئك جن نصيبين). وكانوا اثني عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم: اقرأ باسم ربك. وفي آخر هذا الحديث قلت: يا رسول الله، سمعت لهم لغطا، فقال: (إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق). وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن، والله أعلم بصحة ذلك.
* (فلما حضروه) *: أي القرآن، أي كانوا بمسمع منه، وقيل: حضروا الرسول، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب. * (قالوا أنصتوا) *: أي اسكتوا للاستماع، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم. وقرأ الجمهور: * (فلما قضى) *: مبنيا للمفعول؛ وأبو مجلز، وحبيب بن عبد الله بن الزبير: قضى، مبنيا للفاعل، أي قضى محمد ما قرأ، أي أتمه وفرغ منه. وقال ابن عمر، وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة الرحمن، فكان إذا قال: * (فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *، قالوا: لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. * (ولوا إلى قومهم منذرين) *: تفرقوا على البلاد ينذرون الجن. قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم. انتهى. وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب، وخنافر وأمثالهما، حين جاءهما رياهما من الجن، وكان سبب إسلامهما.
* (من بعد موسى) *: أي من بعد كتاب موسى. قال عطاء: كانوا على ملة اليهود، وعن ابن عباس: لم تسمع الجن بأمر عيسى، وهذا لا يصح عن ابن عباس.
كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به. ويجوز أن يكونوا قالوا: * (من بعد موسى) * تنبيها لقومهم على اتباع الرسول، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى، فقالوا: ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة، * (مصدقا لما بين يديه) * من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد، والأمر بتطهير الأخلاق. * (يهدى إلى الحق) *: أي إلى ما هو حق في نفسه صدق، يعلم ذلك بصريح العقل. * (وإلى * صراط مستقيم) *: غابر بين اللفظين، والمعنى متقارب، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار. * (أجيبوا داعى الله) *: هو الرسول، والواسطة المبلغة عنه، * (ياقومنا أجيبوا) *: يعود على الله.
* (يغفر لكم من ذنوبكم) *: من للتبعيض، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم، قال معناه الزمخشري. وقيل: من زائدة، لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا يبقى معه تبعة. * (ويجركم من عذاب أليم) *: وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب، وكذا قال ابن عباس: لهم ثواب وعليهم عقاب، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها. وقيل: لا ثواب لها إلا النجاة من النار، وإليه كان يذهب أبو حنيفة. * (فليس بمعجز فى الارض) *: أي بفائت من عقابه، إذ لا منجا منه، ولا مهرب، كقوله: * (وأنا ظننا أن لن نعجز الله فى الارض ولن نعجزه هربا) *. وروي عن ابن عامر: وليس لهم بزيادة ميم. وقرأ الجمهور: * (ولم يعى) *، مضارع عيي، على وزن فعل، بكسر العين؛ والحسن: ولم يعي، بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة، كما قالوا في بقي: بقا، وهي لغة لطيىء. ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين، فجاء يعني. فلما دخل الجازم، حذف الياء، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين، فسكنت الياء وبقي يعي. وقرأ الجمهور: * (بقادر) *: اسم فاعل، والباء زائدة في خبر أن، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي. وقد أجاز الزجاج: ما ظننت أن أحدا بقائم،
(٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 ... » »»