تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٩٢
الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع، كقولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، حيث جمع وصفهما ليس بسديد، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح.
وقرأ ابن محيصن: * (وإستبرق) *، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف. وقال الزمخشري: هنا وقرئ وإستبرق نصبا في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول: الإستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ: وإستبرق، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضا لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبره. انتهى. ودل قوله: إلا أن يزعم ابن محيصن، وقوله: بعد وقرئ وإستبرق بوصل الألف والفتح، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف؛ والمنقول عنه في كتب القراءات أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف. وقال أبو حاتم: لا يجوز، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميرا، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة. انتهى. ونقول: إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية، وقد أخذ عن أكابر العلماء، ويتطلب لقراءته وجه، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق. وتقول: برق وإستبرق، كعجب واستعجب.
ولما كان قوله: * (خضر) * يدل على الخضرة، وهي لون ذلك السندس، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش، أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل غبشته. فاستبرق فعل ماض، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله: * (خضر) *. وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة * (أساور من فضة) *، وفي موضع آخر * (من ذهب) *، أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما، كما يقع للنساء في الدنيا. قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران، سوار من ذهب وسوار من فضة. انتهى. فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن، وإما أن يكون بدلا منه، وإما أن يكون مفعول أحسن، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور. فإن كان الأول، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب، لا تقول: ما أحسن بزيد، تريد: ما أحسن زيدا، وإن كان الثاني، ففي مثل هذا الفصل خلاف. والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف.
* (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *، طهور صفة مبالغة في الطهارة، وهي من فعل لازم؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة، ولم تمس بيد وضرة، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه. ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال: أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة، لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك. انتهى. وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعي وإبراهيم التيمي، قالوا: لا تنقلب إلى البول، بل تكون رشحا من الأبدان أطيب من المسك. * (إن هذا) *: أي النعيم السرمدي، * (كان لكم جزاء) *: أي لأعمالكم الصالحة، * (وكان سعيكم مشكورا) *: أي مقبولا مثابا. قال قتادة: لقد شكر الله سعيا قليلا، وهذا على إضمار يقال لهم. وهذا القول لهم هو على سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب: إن هذا بعملك الرديء، فيزداد غما وحزنا.
ولما ذكر أولا حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع، ذكر ما شرف به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم)، فقال: * (إنا نحن نزلنا عليك القرءان) *، وأمره بالصبر بحكمه، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدول المخبر عنه، وأكد الفعل بالمصدر. * (ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) *، قال قتادة: نزلت في أبي جهل، قال: إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه، فأنزل الله تعالى: * (ولا تطع) * الآية. والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما، لأنه يستلزم النهي عن أحدهما، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما. ولو قال: لا تضرب زيدا وعمرا، لجاز أن يكون نهيا عن ضربهما جميعا، لا عن ضرب أحدهما. وقال أبو عبيدة: أو بمعنى الواو، والكفور، وإن كان إثما، فإن فيه مبالغة في الكفر. ولما كان وصف الكفور مباينا للموصوف لمجرد الإثم، صلح التغاير فحسن العطف. وقيل: الآثم عتبة، والكفور الوليد، لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق؛ وكان الوليد غالبا في الكفر، شديد الشكيمة في العتو.
* (واذكر اسم ربك بكرة) *: يعني صلاة الصبح، * (وأصيلا) *: الظهر والعصر. * (ومن اليل) *: المغرب
(٣٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 387 388 389 390 391 392 393 394 395 396 397 ... » »»