تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٣٨٩
ومذللة، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية. ويجوز أن تكون في موضع الحال، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت.
قوله عز وجل: * (ويطاف عليهم بئانية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قوارير * من فضة قدروها تقديرا * ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا * عينا فيها تسمى سلسبيلا * ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا * وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هاذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا * إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنزيلا * فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا * واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا * ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا * إن هاؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا * نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا * إن هاذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما * يدخل من يشاء فى رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) *. لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم، ذكر شرابهم، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها، والآنية جمع إناء، وتقدم شرح الأكواب. وقرأ نافع والكسائي: قواريرا قواريرا بتنوينهما وصلا وإبداله ألفا وقفا؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص: بمنع صرفهما؛ وابن كثير: بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني. وقال الزمخشري: وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة، وفي الثاني لاتباعه الأول. انتهى. وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلا بالتنوين: إنه بدل من حرف الإطلاق، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعارا بترك الترنم، كما قال الراجز:
يا صاح ما هاج الدموع الذرفن فهذه النون بدل من الألف، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق. * (من فضة) *: أي مخلوقة من فضة، ومعنى * (كانت) *: أنه أوجدها تعالى من قوله: * (كن فيكون) * تفخيما لتلك الخقلة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها، ومن ذلك قوله: * (كان مزاجها كافورا) *. وقرأ الأعمش: قوارير من فضة بالرفع، أي هو قرارير. وقرأ الجمهور: * (قدروها) * مبنيا للفاعل، والضمير للملائكة، أو للطواف عليهم، أو المنعمين، والتقدير: على قدر الأكف، قاله الربيع؛ أو على قدر الري، قاله مجاهد. وقال الزمخشري: * (قدروها) * صفة لقرارير من فضة، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروها. وقيل: الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله: * (ويطاف عليهم) *، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد: لا يفيض ولا يغيض. انتهى. وقرأ علي وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن علي والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان، والأصمعي عن أبي عمرو، وابن عبد الخالق عن يعقوب:
قدروها مبنيا للمفعول. قال أبو علي: كأن اللفظ قدروا عليها، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال: قدرت عليهم، فهي مثل قوله: * (ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوة) *، ومثل قول العرب: إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء. وقال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قدر منقولا من قدر، تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادرا عليه، ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاءوا، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا. انتهى.
وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهم، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا، قال: فيه حذف على حذف، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها، ثم حذف على فصار قدر ريهم
(٣٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 384 385 386 387 388 389 390 391 392 393 394 ... » »»