كان صلح الحديبية قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يرد إليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة رد إليهم، فجاءت أم كلثوم، وهي بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول امرأة هاجرت بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها عمارة والوليد، فقالا: يا محمد أوف لنا بشرطنا، فقالت: يا رسول الله حال النساء إلى الضعف، كما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي، فنقض الله العهد في النساء، وأنزل فيهن الآية، وحكم بحكم رضوه كلهم. وقيل: سبب نزولها سبيعة بنت الحارث الأسلمية، جاءت الحديبية مسلمة، فأقبل زوجها مسافر المخدومي. وقيل: صيفي بن الراهب، فقال: يا محمد أردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزلت بيانا أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء. وذكر أبو نعيم الأصبهاني أن سبب نزولها أميمة بنت بشر بن عمرو بن عوف، امرأة حسان بن الدحداحة، وسماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن، وذلك لنطقهن بكلمة الشهادة، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان.
وقرئ: مهاجرات بالرفع على البدل من المؤمنات، وامتحانهن، قالت عائشة: بآية المبايعة. وقيل: بأن بشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقال ابن عباس: بالحلف إنها ما خرجت إلا حبا لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة وعكرمة: كانت تستحلف أنها ما هاجرت لبغض في زوجها ، ولا لجريرة جرتها، ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة. * (الله أعلم بإيمانهن) *: لأنه تعالى هو المطلع على أسرار القلوب ومخبآت العقائد، * (فإن علمتموهن) *: أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن، والحلول في قوم ليسوا من قومها، وبين انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن، وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر.
وقرأ طلحة: لا هن يحلان لهم، وانعقد التحريم بهذه الجملة، وجاء قوله: * (ولا هم يحلون لهن) * على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر، علم أنه لا حل بينهما البتة. وقيل: أفاد قوله: * (ولا هم يحلون لهن) * استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان. * (ياأيها الذين ءامنوا) *: أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت، فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية. قال ابن عباس: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بعد امتحانها زوجها الكافر، ما أنفق عليها، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وكان إذا امتحنهن، أعطى أزواجهن مهورهن. وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما كان في نساء أهل العهد، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين، فلا يرد عليه الصداق، والأمر كما قال قتادة، ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين إياهن إذا آتوهن مهورهن، ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهن الكوافر عوابد الأوثان.
وقرأ الجمهور: * (تمسكوا) * مضارع أمسك، كأكرم؛ وأبو عمرو ومجاهد: بخلاف عنه؛ وابن جبير والحسن والأعرج: مضارع مسك مشددا؛ والحسن أيضا وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ: تمسكوا بفتح الثلاثة، مضارع تمسك محذوف الثاني بتمسكوا؛ والحسن أيضا: تمسكوا بكسر السين، مضارع مسك ثلاثيا. وقال الكرخي: * (الكوافر) *، يشمل الرجال والنساء، فقال له أبو علي الفارسي: النحويون لا يرون هذا إلا في النساء، جمع كافرة، وقال: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة؟ قال أبو علي: فبهت فقلت: هذا تأييد. انتهى. وهذا الكرخي معتزلي فقيه، وأبو علي معتزلي، فأعجبه هذا التخريج، وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعا لموصوفها، أو يكون محذوفا مرادا، أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث. والعصم جمع عصمة، وهي سبب البقاء في الزوجية. * (ياأيها الذين ءامنوا) *: أي واسألوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم، * (وليسئلوا) *: أي الكفار ما أنفقوا على أزواجهم إذ فروا إلى المؤمنين.
ولما تقرر هذا الحكم، قالت قريش، فيما روي: لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى: * (وإن فاتكم) *، فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا من فرت زوجته من المسلمين، ففاتت بنفسها إلى الكفار وانقلبت من الإسلام، ما كان مهرها. قال