تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٦٢
إذ كان من خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم، وفي ذلك وعيد للكفار، ووعد للمؤمنين.
* (ولله ما فى * السماوات وما في الارض) *: أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى، يتصرف فيهما بما شاء. واللام في * (ليجزى) * متعلقة بما دل عليه معنى الملك، أي يضل ويهدي ليجزي. وقيل: بقوله: * (بمن ضل) *، و * (بمن اهتدى) *، واللام للصيرورة، والمعنى: إن عاقبة أمرهم جميعا للجزاء بما علموا، أي بعقاب ما علموا، والحسنى: الجنة. وقيل: التقدير بالأعمال الحسنى، وحين ذكر جزاء المسئ قال: بما علموا، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل، وتدل على الكرم والزيادة للمحسن، كقوله تعالى: * (ولنجزينهم أحسن الذى كانوا يعملون) *، والأحسن تأنيث الحسنى. وقرأ زيد بن علي: لنجزي ونحزي بالنون فيهما.
وتقدم الكلام في الكبائر في قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * في سورة النساء. والذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والفواحش معطوف على كبائر، وهي ما فحش من الكبائر، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها. وقال الزمخشري: والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. * (إلا اللمم) *: استثناء منقطع، لأنه لم يدخل تحت ما قبله، وهو صغار الذنوب، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم، كقوله: * (لو كان فيهما الهة إلا الله) *، أي غير الله * (لفسدتا) *. وقيل: يصح أن يكون استثناء متصلا، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو، وقد اختلفوا فيه اختلافا، فقال الخدري: هو النظرة والغمزة والقبلة. وقال السدي: الخطرة من الذنب. وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي والكلبي: كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حدا ولا عذابا. وقال ابن عباس أيضا وابن زيد: ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام.
وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه: أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين: قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا، فنزلت، وهي مثل قوله: * (وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف) *. وقيل: نزلت في نبهان التمار، وحديثه مشهور. وقال ابن عباس وغيره: العلقة والسقطة دون دوام، ثم يتوب منه. وقال الحسن: والزنا والسرقة والخمر، ثم لا يعود. وقال ابن المسيب: ما خطر على القلب. وقال نفطويه: ما ليس بمعتاد. وقال الرماني: الهم بالذنب، وحديث النفس دون أن يواقع. وقيل: نظرة الفجأة. * (إن ربك واسع المغفرة) *، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وقال الزمخشري: والكبائر بالتوبة. انتهى، وفيه نزغة الاعتزال.
* (هو أعلم بكم) *: قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم، وإذا مات طفل لهم قالوا: هذا صديق عند الله. وقيل: في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم، والظاهر أنه خطاب عام، وأعلم على بابها من التفضيل. وقال مكي: بمعنى عالم بكم، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها. كان مكيا راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو: * (إذ أنشأكم من الارض) *، والظاهر أن المراد بأنشأكم: أنشأ أصلكم، وهو آدم. ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض، * (فلا تزكوا أنفسكم) *: أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي، ولا تثنوا عليها واهضموها، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم.
وكثيرا ما ترى من المتصلحين، إذا حدثوا، كان وردنا البارحة كذا، وفاتنا من وردنا البارحة، أو فاتنا وردنا، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل. وترى لبعضه في جبينه سوادا يوهم أنه من كثرة السجود، ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام، فيحرك يديه مرارا، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه، وكأنه يخطف شيئا بيديه وقت التحريكة الأخيرة، يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية. وبعضهم يقول في
(١٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 157 158 159 160 161 162 163 164 165 166 167 ... » »»