تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٦١
توبيخ لهم، والذي هم عليه باطل واعتراض بين الجملتين، أي يفعلون هذه القبائح؛ والهدى قد جاءهم، فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا يجدي عبادته.
* (أم للإنسان ما تمنى) *: هو متصل بقوله: * (وما تهوى الانفس) *، بل للإنسان، والمراد به الجنس، * (ما تمنى) *: أي ما تعلقت به أمانيه، أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني، بل لله الأمر. وقولكم: إن آلهتكم تشفع وتقرب زلفى، ليس لكم ذلك. وقيل: أمنيتهم قولهم: * (ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى) *. وقيل: قول الوليد بن المغيرة: * (لاوتين مالا وولدا) *. وقيل: تمنى بعضهم أن يكون النبي. * (فلله الاخرة والاولى) *: أي هو مالكهما، فيعطي منهما ما يشاء، ويمنع من يشاء، وليس لأحد أن يبلغ منهما إلا ما شاء الله. وقدم الآخرة على الأولى، لتأخرها في ذلك، ولكونها فاصلة، فلم يراع الترتيب الوجودي، كقوله: * (وإن لنا للاخرة والاولى) *.
* (وكم من ملك فى * السماوات * لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى * إن الذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى * وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا * فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيواة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى * ولله ما فى * السماوات وما في الارض * ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى * الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض وإذ) *.
* (وكم) *: هي خبرية، ومعناها هنا: التكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر * (لا تغنى) *؛ والغنى: جلب النفع ودفع الضر، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى. وكم لفظها مفرد، ومعناها جمع. وقرأ الجمهور: * (شفاعتهم) *، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير؛ وزيد بن علي: شفاعته، بإفراد الشفاعة والضمير؛ وابن مقسم: شفاعاتهم، بجمعهما، وهو اختيار صاحب الكامل، أي القاسم الهذلي. وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد، لم تغن شفاعتهم عنه شيئا. فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه، أي يرضاه أهلا للشفاعة، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها؟ * (الملائكة تسمية الانثى) *: كونهم يقولون إنهم بنات الله، * (والذين لا يؤمنون بالاخرة) *: هم العرب منكر والبعث. * (وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا) *: أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن، وإنما يدرك بالعلم واليقين. قيل: ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون، ويدل عليه ذلك بأن الله هو الحق.
* (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا) *، موادعة منسوخة بآية السيف. * (ولم يرد إلا الحيواة الدنيا) *: أي لم تتعلق إرادته بغيرها، فليس له فكر في سواها، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة. والذكر هنا: القرآن، أو الإيمان، أو الرسول صلى الله عليه وسلم)، أقوال. * (عن من تولى عن ذكرنا) *: هو سبب الأعراض، لأن من لا يصغي إلى قول، كيف يفهم معناه؟ فأمر صلى الله عليه وسلم) بالإعراض عن من هذه حاله، ثم ذكر سبب التولي عن الذكر، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا. فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم، وإيثار الدنيا سبب التولي عن الذكر، وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها. * (مبلغهم) *: غايتهم ومنتهاهم من العلم، وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا، كالفلاحة والصنائع، لقوله تعالى: * (يعلمون ظاهرا من الحيواة الدنيا) *. ولما ذكر ما هم عليه، أخبر تعالى بأنه عالم بالضال والمهتدي، وهو مجازيهما. وقال الزمخشري: وقوله: * (ذلك مبلغهم من العلم) *: اعتراض. انتهى، وكأنه يقول: هو اعتراض بين * (فأعرض) * وبين * (إن ربك) *، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض. وقيل: ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله. وقال الفراء: صغر رأيهم وسفه أحلامهم، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: ذلك إشارة إلى الظن، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن. وقوله: * (إن ربك هو أعلم) * في معرض التسلية،
(١٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 156 157 158 159 160 161 162 163 164 165 166 ... » »»