تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٠٦
عن جهر مخصوص. وكره العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وبحضرة العالم، وفي المساجد.
وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان جهير الصوت، وحديثه في انقطاعه في بيته أياما بسبب ذلك مشهور، وأنه قال: يا رسول الله، لما أنزلت، خفت أن يحبط عملي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إنك من أهل الجنة). وقال له مرة: (أما ترضى أن تعيش حميدا وتموت شهيدا)؟ فعاش كذلك، ثم قتل باليمامة، رضي الله تعالى عنه يوم مسيلمة. * (أن تحبط أعمالكم) *: إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافا، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة؛ وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على عادته، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم)، وغض الصوت عنده، أن لو فعل ذلك، كأنه قال: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها. وأن تحبط مفعول له، والعامل فيه ولا تجهروا، على مذهب البصريين في الاختيار، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار، ومع ذلك، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر. وقرأ عبد الله وزيد بن علي: فتحبط بالفاء، وهو مسبب عن ما قبله.
* (إن الذين يغضون أصواتهم) *، قيل: نزلت في أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. * (امتحن الله قلوبهم للتقوى) *: أي جربت ودربت للتقوى، فهي مضطلعة بها، أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأن تحقيق الشيء باختباره، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى في موضع الحال، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى، أي لتثبت وتظهر تقواها. وقيل: أخلصها للتقوى من قولهم: امتحن الذهب وفتنة إذا أذابه، فخلص إبريزه من خبثه. وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده، جائيا بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم. وكل هذا دليل على أن الارتضاء بما فعلوا من توقير النبي صلى الله عليه وسلم)، بغض أصواتهم، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستجابهم ضد ما استوجبه هؤلاء.
* (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) *: نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم وغيرهم. وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم) راقد، فجعلوا ينادونه بجملتهم: يا محمد، أخرج إلينا. فاستيقظ فخرج، فقال له الأقرع بن حابس: يا محمد، إن مدحي زين وذمي شين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم): (ويلك ذلك الله تعالى). فاجتمع الناس في المسجد فقالوا: نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا، نشاعرك ونفاخرك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا). فقال الزبرقان لشاب منهم: فخروا ذكر فضل قومك، فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عددا ومالا وسلاحا، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعل هو أحسن من فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيبه: (قم فأجبه)، فقال: (الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها وأعظمهم أحلاما فأجابوه، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزا لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا أله إلا الله، فمن قالها منع نفسه وماله، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هينا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات). وقال الزبرقان لشاب: قم فقل أبياتا تذكر فيها فضل قومك، فقال:
* نحن الكرام فلا حي يعادلنا * فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع * * ونطعم النفس عند القحط كلهم * من السيف إذا لم يؤنس الفزع *
(١٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 ... » »»