تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٤١٩
لداخل عليه همزة التقرير. ولما كان قوله: * (لو أن الله هدانى) * وجوابه متضمنا نفي الهداية، كأنه قال: ما هداني الله، فقيل له: * (بلى قد جاءتك ءاياتى) * مرشدة لك، فكذبت. وقال الزمخشري: رد من الله عليه ومعناه: بلى قد هديت بالوحي. انتهى، جريا على قواعد المعتزلة. وقال ابن عطية: وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، وقوله: * (بلى) * جواب لنفي مقدر، كأن النفس قالت: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر، أو قالت: فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا. انتهى. وليس حق بلى ما ذكر، بل حقها أن تكون جواب نفي. ثم حمل التقرير على النفي، ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب، وأجابه بنعم، ووقع ذلك أيضا في كلام سيبويه نفسه أن أجاب التقرير بنعم اتباعا لبعض العرب. وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله: * (لو أن الله هدانى) *، ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو، إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى. فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن؛ وأما الثاني، فلما فيه من نقض الترتيب، وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية. ثم تمنى الرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. انتهى، وهو كلام حسن.
وقرأ الجمهور: * (قد جاءتك) *، بفتح الكاف وفتح تاء ما بعدها، خطابا للكافر ذي النفس. وقرأ ابن يعمر والجحدري، وأبو حيوة، والزعفراني، وابن مقسم، ومسعود بن صالح، والشافعي عن ابن كثير، ومحمد بن عيسى في اختياره وعن نصير، والعبسي: بكسر الكاف والتاء، خطاب للنفس، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة، رضي الله عنهما، وروتهما أم سلمة عن النبي / صلى الله عليه وسلم). وقرأ الحسن، والأعرج، والأعمش: جأتك، بالهمز من غير مد، بوزن بعتك، وهو مقلوب من جاءتك، قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف، كما سقطت في رمت وعرب. ولما ذكر مقالة الكافر، ذكر ما يعرض له يوم القيامة من الإنذار بسوء منقلبة، وفي ضمنه وعيد لمعاصريه، عليه السلام. والرؤية هنا من رؤية البصر، وكذبهم نسبتهم إليه تعالى البنات والصاحبة والولد، وشرعهم ما لم يأذن به الله. والظاهر أنه عام في المكذبين على الله، وخصه بعضهم بمشركي العرب وبأهل الكتابين. وقال الحسن: هم القدرية يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. وقال القاضي: يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. وقال القاضي: يجب حمل الآية على الكل من المجبرة والمشبهة وكل من وصف الله بما لا يليق به نفيا وإثباتا، فأضاف إليه ما يجب أن لا يضاف إليه، فالكل كذبوا على الله؛ فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة واليهود والنصارى لا يجوز.
وقال الزمخشري: * (كذبوا على الله) *: وصفوه بما لا يجوز عليه، وهو متعال عنه، فأضافوا إليه الولد والشريك، وقالوا: * (شفعاؤنا عند الله) *، وقالوا: * (لو شاء الرحمان ما عبدناهم) *، وقالوا: * (والله أمرنا بها) *، قوم يسفهونه بفعل القبائح. ويجوز أن يخلق خلقا لا لغرض، وقوله: لا لغرض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيا مدركا بالحاسة، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا مستترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدما. انتهى، وكلام من قبله على طريقة المعتزلة. والظاهر أن الرؤية من رؤية البصر، وأن * (وجوههم مسودة) * جملة في موضع الحال، وفيها رد على الزمخشري، إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الاسمية في موضع المفعول الثاني، وهو بعيد، لأن تعلق البصر برؤية الأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلب. وقرئ: وجوههم مسودة بنصبهما، فوجوههم بدل بعض من كل. وقرأ أبي: أجوههم، بإبدال الواو همزة، والظاهر أن الاسوداد حقيقة، كما مر في قوله: * (فأما الذين اسودت وجوههم) *. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عن ارتداد وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم.
ولما ذكر تعالى حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين، أي الكذب على الله وغيره، مما يؤول بصاحبه إلى اسوداد وجهه، وفي ذلك الترغيب في هذا الوصف الجليل الذي هو التقوى. قال السدي
(٤١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 414 415 416 417 418 419 420 421 422 423 424 ... » »»