تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٩٢
فمضى تفسير.
* (فإذا سويته * فنسى ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس) *: تقدم الكلام على هذا في الحجر، وهنا * (استكبر وكان من الكافرين) *، وفي البقرة: * (أبى واستكبر وكان من الكافرين) *، وفي الأعراف: * (لم يكن من الساجدين) *، وفي الحجر: * (أبى أن يكون * من الساجدين) *، وفي الإسراء: * (قال أءسجد لمن خلقت طينا) *، وفي الكهف: * (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) *. والاستثناء في جميع هذه الآيات يدل على أنه لم يسجد، فتارة أكد بالنفي المحض، وتارة ذكر إبايته عن السجود، وهي الأنفة من ذلك، وتارة نص على أن ذلك الامتناع كان سببه الاستكبار. والظاهر أن قوله: * (وكان من الكافرين) * أريد به كفره ذلك الوقت، وإن لم يكن قبله كافرا؛ وعطف على استكبر، فقوى ذلك، لأن الاستكبار عن السجود إنما حصل له وقت الأمر. ويحتمل أن يكون إخبارا منه بسبق كفره في الأزمنة الماضية في علم الله.
* (قال ياءادم * إبليس * ما منعك أن تسجد) *، وفي الأعراف: * (ما منعك أن * لا تسجدوا) *، فدل أن تسجد هنا، على أن لا في أن لا تسجد زائدة، والمعنى أيضا يدل على ذلك، لأنه لا يستفهم إلا عن المانع من السجود، وهو استفهام تقرير وتوبيخ. وما في * (لما خلقت) *، استدل بها من يجيز إطلاق ما على آحاد من يعقل، وأول بأن ما مصدرية، والمصدر يراد به المخلوق، لا حقيقة المصدر. وقرأ الجحدري: لما بفتح اللام وتشديد الميم، خلقت بيدي، على الإفراد؛ والجمهور: على التثنية؛ وقرئ بيدي، كقراءة بمصرخي؛ وقال تعالى: * (مما عملت أيدينا) * بالجمع، وكلها عبارة عن القدرة والقوة، وعبر باليد، إذ كان عند البشر معتادا أن البطش والقوة باليد. وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن اليد صفة ذات. قال ابن عطية: وهو قول مرغوب عنه.
وقرأ الجمهور: * (أستكبرت) *، بهمزة الاستفهام، وأم متصلة عادلت الهمزة. قال ابن عطية: وذهب كثير من النحويين إلى أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين، وإنما تكون معادلة إذا دخلنا على فعل واحد، كقولك: أزيد قام أم عمرو؟ وقولك: أقام زيد أم عمرو؟ فإذا اختلف الفعلان كهذه الآية، فليست معادلة. ومعنى الآية: أحدث لك الاستكبار الآن، أم كنت قديما ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك؟ وهذا على جهة التوبيخ. انتهى. وهذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح. قال سيبويه: وتقول أضربت زيدا أم قتلته فالبدء هنا بالفعل أحسن، لأنك إنما تسأل عن أحدهما، لا تدري أيهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما، كأنك قلت: أي ذلك كان؟ انتهى. فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين. * (من العالين) *: ممن علوت وفقت. فأجاب بأنه من العالين، حيث قال * (أنا خير منه) *. وقيل: استكبرت الآن، أو لم تزل مذ كنت من المستكبرين؟ ومعنى الهمزة: التقرير. انتهى. وقرأت فرقة، منهم ابن كثير وغيره: استكبرت، بصلة الألف، وهي قراءة أهل مكة، وليست في مشهور ابن كثير، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام حذفت لدلالة أم عليها، كقوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان واحتمل أن يكون إخبارا خاطبه بذلك على سبيل التقريع، وأم تكون منقطعة، والمعنى: بل أنت من العالين عند نفسك استخفافا به. * (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) *: تقدم الكلام على ذلك في الأعراف. * (قال فاخرج منها) * إلى قوله: * (إلى يوم الوقت المعلوم) *: تقدم الكلام على مثل ذلك في الحجر، إلا أن هنا * (لعنتى) * وهناك * (اللعنة) * أعم. ألا ترى إلى قوله: * (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) *؟ وأما بالإضافة، فالعموم في اللعنة أعم، واللعنات إنما تحصل من جهة أن عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل لاعن، هذا من جهة المعنى، وأما باللفظ فيقتضي التخصيص. * (قال فبعزتك لاغوينهم) *: أقسم إبليس هنا بعزة الله، وقال في الأعراف: * (فيما * أغويتنى لاقعدن) *، وفي الحجر: * (رب بمآ أغويتنى لازينن) *. وتقدم الكلام عليهما في موضعهما، وأن من المفسرين من قال: إن الباء في: بما أغويتني، وفي: فبما أغويتني ليست باء القسم. فإن كانت باء القسم، فيكون ذلك في موطئين: فهنا: * (لاغوينهم) *، وفي الأعراف: * (لاقعدن) *، وفي الحجر: * (لازينن) *. وقرأ الجمهور: فالحق، بنصبهما. أما الأول فمقسم به، حذف منه الحرف كقوله: * (* أمانة الله لأقومن) *، والمقسم
(٣٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 387 388 389 390 391 392 393 394 395 396 397 ... » »»