والحساب والعقاب، وهم عن ذلك معرضون. وقوله: * (ما كان لى من علم بالملإ الاعلى إذ يختصمون) *: احتجاج على قريش بأن ما جاء به من عند الله لا من قبل نفسه. فإن من في الأرض ما له علم بمن في السماء إلا بإعلام الله تعالى؛ وعلم المغيبات لا يوصل إليه إلا بإعلام الله تعالى، وعلمه بأحوال أهل النار، وابتداء خلق آدم لم يكن عنه علم بذلك؛ فإخباره بذلك هو بإعلام الله والاستدلال بقصة آدم، لأنه أول البشر خلقا، وبينه وبين الرسول عليه السلام أزمان متقادمة وقرون سالفة. انتهى، وفي آخره بعض اختصار.
ثم احتج بصحة نبوته، بأن ما ينبئ به عن الملأ الأعلى واختصامهم أمر لم يكن به به من علم قط. ثم علمه من غير الطريق الذي يسلكه المتعلمون، بل ذلك مستفاد من الوحي، وبالملأ متعلق بعلم، وإذ منصوب به. وقال الزمخشري: بمحذوف، لأن المعنى: ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. * (وإذ قال) * بدل من * (إذ يختصمون) * على الملأ الأعلى، وهم الملائكة، وأبعد من قال إنهم قريش، واختصام الملائكة في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض. وقالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) *. قال ابن عباس: وقال الحسن: إن الله خالق خلقا كنا أكرم منه وأعلم. وقيل: في الكفارات وغفر الذنوب، فإن العبد إذا عمل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما يشاء. وفي الحديث: (قال له ربه في نومه، عليه السلام: فيم يختصمون؟ فقلت: لا أدري، فقال: في الكفارات وفي إسباغ الوضوء في السرات ونقل الخطأ إلى الجماعات).
وقال الزمخشري: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك، وكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط، فيصح أن التقاول بين الملائكة وآدم وإبليس، وهم الملأ الأعلى؛ والمراد بالاختصام: التقاول. وقيل: الملأ الأعلى: الملائكة، وإذ يختصمون: الضمير فيه للعرب الكافرين، فبعضهم يقول: هي بنات الله، وبعضهم: آلهة تعبد، وغير ذلك من أقوالهم.
* (ءان * يوحى إلى) *: أي ما يوحى إلي، * (أنما أنا نذير) *: أي للإنذار، حذف اللام ووصل الفعل والمفعول الذي لم يسم فاعله يجوز أن يكون ضميرا يدل عليه، المعنى، أي أن يوحى إلي هو، أي ما يوحى إلا الإنذار، وأقيم إلى مقامه، ويجوز أن يكون إنما هو المفعول الذي لم يسم فاعله، أي ما يوحى إلي إلا الإنذار. وقرأ أبو جعفر: إلا إنما، بكسر همزة إنما على الحكاية، أي ما يوحى إلي إلا هذه الجملة، كأن قيل له: أنت نذير مبين، فحكى هو المعنى، وهذا كما يقول الإنسان: أنا عالم، فيقال له: قلت إنك عالم، فيحكى المعنى. وقال الزمخشري: وقرئ إنما بالكسر على الحكاية، أي إلا هذا القول، وهو أن أقول لكم * (أنما أنا نذير مبين) *، فلا أدعي شيئا آخر. انتهى. في تخريجه تعارض، لأنه قال: أي إلا هذا القول، فظاهره الجملة التي هي * (أنما أنا نذير مبين) *، ثم قال: وهو أن أقول لكم إني نذير، فالمقام مقام الفاعل هو أن أقول لكم، وأن وما بعده في موضع نصب، وعلى قوله: إلا هذا القول، يكون في موضع رفع فيتعارضا. وتقدم أن، إذ قال بدل من: إذ يختصمون، هذا إذا كانت الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض، وعلى غيره من الأقوال يكون منصوبا باذكر.
ولما كانت قريش، خالفوا الرسول، عليه السلام، بسبب الحسد والكبر. ذكر حال إبليس، حيث خالف أمر الله بسبب الحسد والكبر وما آل إليه من اللعنة والطرد من رحمة الله، ليزدجر عن ذلك من فيه شيء منهما. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يقول لهم: * (إنى خالق بشرا) *، وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت: وجهه أن يكون قد قال لهم: إني خالق خلقا من صفة كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم. انتهى. والبشر هو آدم عليه السلام، وذكر هنا أنه خلقه من طين، وفي آل عمران: * (خلقه من تراب) *، وفي الحجر: * (من صلصال من حمإ مسنون) *، وفي الأنبياء: * (من عجل) *؛ ولا منافاة في تلك المادة البعيدة، وهي التراب، ثم ما يليه وهو الطين، ثم ما يليه وهو الحمأ المسنون، ثم المادة تلي الحمأ وهو الصلصال؛ وأما من عجل