هذه من تمام حسنة، أي ولو تأخر لكان صفة، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا. فلما تقدم انتصب على الحال، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى.
ثم حض على الهجرة فقال: * (وأرض الله واسعة) *، كقوله: * (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) *، أي لا عذر للمفرطين البتة، حتى لو اعتلوا بأوطانهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات، قيل لهم: إن بلاد الله كثيرة واسعة، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات. وقال عطاء: وأرض الله: المدينة للهجرة، قيل: فعلى هذا يكون أحسنوا: هاجروا، وحسنة: راحة من الأعداء. وقال قوم: أرض الله هنا: الجنة. قال ابن عطية: وهذا القول تحكم، لا دليل عليه. انتهى. وقال أبو مسلم: لا يمتنع ذلك، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله: * (وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) *، وقوله: * (وجنة عرضها * السماوات والارض * أعدت للمتقين) *.
ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب، كما جاء: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه. وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء، وخصوصا من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة. ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب، أي لا يحاسبون في الآخرة، كما يحاسب غيرهم؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة. * (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) *: أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله، يخلصها من الشوائب، * (وأمرت) *: أي أمرت بما أمرت، لأكون أول من أسلم، أي انقاد لله تعالى، ويعني من أهل عصره أو من قومه، لأنه أول من حالف عباد الأصنام، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي قولا وفعلا، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء. وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع. والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: * (وأمرت أن أكون * أول من أسلم) *. انتهى. ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون، فيكون قد حذفت اللام، والمأمور به محذوف، وهو المصرح به هنا * (إنى أمرت أن أعبد الله) *. * (قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) *: تقدم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس.
لما أمره أولا أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله، أمر ثانيا أن يخبر بأنه يعبد الله وحده. وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص، قال: ولدلالته على ذلك، قدم المعبود على فعل العبادة، وأخره في الأول. فالكلام أولا واقع في الفعل في نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله: * (فاعبدوا ما شئتم من دونه) *. والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية. انتهى. وقال غيره: * (فاعبدوا ما شئتم) *: صيغة أمر على جهة التهديد لقوله: * (قل تمتع بكفرك) *. * (قل إن الخاسرين) *: أي حقيقة الخسران، * (الذين خسروا) *: أي هم الذين خسروا أنفسهم، حيث صاروا من أهل النار، وأهليهم الذين كانوا معهم في الدنيا، حيث كانوا معهم في النار، فلم ينتفعوا منهم بشيء، وإن كان أهلوهم قد آمنوا، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم. وقال قتادة: كأن الله قد أعد لهم أهلا في الجنة فخسروهم، وقال معناه ميمون بن مهران. وقال الحسن: هي الحور العين، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولا، والإشارة إليه، وتأكيده بالفعل، وتعريفه بأل، ووصفه بأنه المبين: أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل.
ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم، ذكر حالهم في جهنم، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحت أرجلهم ظلل، فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم، وسمى ما تحتهم ظللا لمقابلة ما فوقهم، كما قال: * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت