تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٨٤
أن أيوب كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به، وأن ذلك كان سببا لما مسه الله به من النصب والعذاب، ولا أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه، ولا أنه داهن كافرا، ولا أنه أعجب بكثرة ماله. وكذلك ما رووا أن الشيطان سلطه الله عليه حتى أذهب أهله وماله لا يمكن أن يصح، ولا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس الفاسدة لغير المعصوم. والذي نقوله: أنه تعالى ابتلى أيوب عليه السلام في جسده وأهله وماله، على ما روي في الأخبار. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم)، أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم، ولم يصبر عليه إلا امرأته، ولم يبين لنا توالي السبب المقتضي لعلته. وأما إسناده المس إلى الشيطان، فسبب ذلك أنه كان يعوده ثلاث من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه فقيل: ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، فحينئذ قال: * (مسنى الشيطان) *، نزل لشفقته على المؤمنين.
مس الشيطان ذلك المؤمن حتى ارتد منزلة مسه لنفسه، لأن المؤمن الخير يتألم برجوع المؤمن الخير إلى الكفر؛ ولذلك جاء بعده: * (اركض برجلك) *، حتى يغتسل ويذهب عنه البلاء، فلا يرتد أحد من المؤمنين بسبب طول بلائه، وتسويل الشيطان أنه تعالى لا يبتلي الأنبياء. وقيل: أشار بقوله: * (مسنى الشيطان) * إلى تعريضه لامرأته، وطلبه أن تشرك بالله، وكأنه بتشكي هذا الأمر كان عليه أشد من مرضه. وقرأ الجمهور: * (بنصب) *، بضم النون وسكون الصاد، قيل: جمع نصب، كوثن ووثن؛ وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص، والجعفي عن أبي بكر، وأبو معاذ عن نافع: بضمتين، وزيد بن علي، والحسن، والسدي؛ وابن عبلة، ويعقوب، والجحدري: بفتحتين؛ وأبو حيوة، ويعقوب في رواية، وهبيرة عن حفص: بفتح النون وسكون الصاد. وقال الزمخشري: النصب والنصب، كالرشد والرشد، والنصب على أصل المصدر، والنصب تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة. والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. انتهى.
وقال ابن عطية: وقد ذكر هذه القراءات، وذلك كل بمعنى واحد معناه المشقة، وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء. وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ، والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم: أنصبني الأمر، إذا شق علي انتهى. وقال السدي: بنصب في الجسد وعذاب في المال، وفي الكلام حذف تقديره: فاستجبنا له وقلنا: * (اركض برجلك) *، فركض، فنبعت عين، فقلنا له: * (هاذا مغتسل بارد وشراب) * فيه شقاؤك، فاغتسل فبرأ، * (ووهبنا له) *، ويدل على هذه المحذوفات معنى الكلام وسياقه. وتقدم الكلام في الركض في سورة الأنبياء. وعن قتادة والحسن ومقاتل: كان ذلك بأرض الجابية من الشأم.
ومعنى * (هاذا مغتسل) *: أي ما يغتسل به، * (وشراب) *، أي ما تشربه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك، وبشربك يبرأ باطنك. والظاهر أن المشار إليه كان واحدا، والعين التي نبعت له عينان، شرب من إحداهما واغتسل من الأخرى. وقيل: ضرب برجله اليمنى، فنبعت عين حارة فاغتسل. وباليسرى، فنبعت باردة فشرب منها، وهذا مخالف لظاهر قوله: * (مغتسل بارد) *، فإنه يدل على أنه ماء واحد. وقيل: أمر بالركض بالرجل، ليتناثر عنه كل داء بجسده. وقال القتبي: المغتسل: الماء الذي يغتسل به. وقال مقاتل: هو الموضع الذي يغتسل فيه. وقال الحسن: ركض برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا، ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها. قيل: والجمهور على أنه ركض ركضتين، فنبعت له عينان، شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى. والجمهور: على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم. وقيل: رزقه أولادا وذرية قدر ذريته الذين هلكوا، ولم يرد أهله الذين هلكوا بأعيانهم، وظاهر هذه الهيئة أنها في الدنيا. وقيل ذلك وعد، وتكون تلك الهيئة في الآخرة. وقيل: وهبه من كان حيا منهم، وعافاه من الأسقام، وأرغد لهم العيش، فتناسلوا حتى تضاعف عددهم وصار مثلهم.
و * (رحمة) *، * (وذكرى) *: مفعولان لهما، أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه، وليتذكر أرباب العقول، وما يحصل للصابرين من الخير، وما يؤول إليه من الأجر. وفي الكلام حذف تقديره: وكان حلف
(٣٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 379 380 381 382 383 384 385 386 387 388 389 ... » »»