تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٤٠
العرب، لم يؤمنوا به، حيث لم يفهموه، واستنكفوا من اتباعه. وقيل: ولو نزلنا القرآن على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم، لم يؤمنوا، لعنادهم لقوله تعالى: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة) * الآية، وجمع جمع السلامة، لأنه وصف بالإنزال عليه والقراءة، وهو فعل العقلاء. وقيل: ولو نزل على بعض البهائم، فقرأه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم)، لم تؤمن البهائم، كذلك هؤلاء لأنهم: * (كالانعام بل هم أضل سبيلا) * انتهى.
ولما بين بما تقدم، من أن هذا القرآن في كتب الأولين، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل. ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان عربي، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعرا وتارة سحرا؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، لكفروا به وتمحلوا بجحوده. وقال الفراء: الأعجمين جمع أعجم وأعجمي، على حذف ياء النسب، كما قالوا: الأشعرين، وواحدهم أشعري. وقال ابن الجهم: قال الكميت:
* ولو جهزت قافية شرودا * لقد دخلت بيوت الأشعرينا * انتهى. وقرأ الحسن، وابن مقسم: الأعجمين، بياء النسب: جمع أعجمي. والضمير في * (سلكناه) *، الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر. قيل: وهو القرآن، وقاله الرماني. والمعنى: مثل ذلك السلك، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه. * (سلكناه) *: أدخلناه ومكناه في * (قلوب المجرمين) *. والمعنى: ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه، ولم يزدهم ذلك إلا عنادا وجحودا وكفرا به، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكديب له، كما وضعناه فيها. فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود، كما قال: * (ولو نزلنا عليك كتابا فى قرطاس) * الآية. وقال الكرماني: أدخلناه فيها، فعرفوا معانيه، وعجزهم عن الإتيان الإيمان بمثله، ولم يؤمنوا به. وقال يحيى بن سلام: الضمير في سلكناه يعود على التكذيب، فذلك الذي منعهم من الإيمان. انتهى. ويقويه قوله: * (فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) *. وقال الحسن: الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله: * (ما كانوا به مؤمنين) *. انتهى. وهو قريب من القول الذي قبله. وقال عكرمة: سلكناه، أي القسوة، وأسند السلك تعالى إليه، لأنه هو موجد الأشياء حقيقة، وهو الهادي وخالق الضلال.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته؟ قلت: أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكين وأثبته، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه. ألا ترى إلى قولهم: هو مجبول على الشح؟ يريدون تمكن الشح فيه، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه، وهو قوله: * (لا يؤمنون) * به. انتهى. وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين، يقتضي تغاير من حل به. والمعنى: مثل ذلك السلك في قلوب قريش، سلكناه في قلوب من أجرم، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإحرام. قال ابن عطية: أراد بهم مجرمي كل أمة، أي إن هذه عادة الله فيهم، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم، وهذا على جهة المثال لقريش، أي هؤلاء كذلك، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما موقع * (لا يؤمنون به) * من قوله: * (سلكناه في قلوب المجرمين) *؟ قلت: موقعه منه موقع الموضح والملخص، لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم، فاتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد، ويجوز أن يكون حالا، أي سلكناه فيها غير مؤمن به. انتهى. ورؤيتهم العذاب، قيل: في الدنيا، وقيل: يوم القيامة. وقرأ الجمهور: * (فيأتيهم) *، بياء، أي العذاب.
(٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 ... » »»