تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٨
غلف عن تدبره، فأوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير.
* (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين * وإنه لفى زبر الاولين * أو لم يكن لهم ءاية أن يعلمه علماء بنى إسراءيل * ولو نزلناه على بعض الاعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين * كذلك سلكناه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم * فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون * فيقولوا هل نحن منظرون * أفبعذابنا يستعجلون * أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون * وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين) *.
الضمير في: * (وأنه) * عائد على القرآن، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر، بل هو من عند الله، وكأنه عاد أيضا إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وحفص: * (نزل) * مخففا، و * (الروح الامين) *: مرفوعان؛ وباقي السبعة: بالتشديد ونصبهما. والروح هنا: جبريل عليه السلام، وقد تقدم في سورة مريم لم أطلق عليه الروح، وبه قال ابن عطية: في موضع الحال كقوله: * (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) *. انتهى. والظاهر تعلق على * (قلبك) * و * (لتكون) * بنزل، وخص القلب والمعنى عليك، لأنه محل الوعي والتثبيت، وليعلم أن المنزل على قلبه عليه السلام محفوظ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير، وليكون علة في التنزيل أو النزول اقتصر عليها، لأن ذلك أزجر للسامع، وإن كان القرآن نزل للإنذار والتبشير. والظاهر تعلق * (بلسان) * بنزل، فكان يسمع من جبريل حروفا عربية. قال ابن عطية، وهو القول الصحيح: وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه. ويمكن أن يتعلق بقوله: * (لتكون) *، وتمسك بهذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم)، كان يسمع أحيانا مثل صلصلة الجرس، يتفهم له منه القرآن، وهو مردود. انتهى. وقال الزمخشري: * (بلسان) *، إما أن يتعلق بالمنذرين، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد صلى الله عليه وسلم) وعليهم؛ وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي المبين لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي، لتجافوا عنه أصلا وقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وفي هذا الوجه، إن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك، تنزيل له على قلبك، لأنك تفهمه ويفهمه قومك. ولو كان أعجميا، لكان نازلا على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها، وقد يكون الرجل عارفا بعده لغات، فإذا كلم بلغتها التي لقنها أولا ونشأ عليها وتطبع بها، لم يكن قلبه إلا إلى معاني تلك الكلم يتلقاها بقلبه، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت. وإن كلم بغير تلك اللغة، وإن كان ماهرا بمعرفتها، كان نظره أولا في ألفاظها، ثم في معانيها. فهذا تقرير أنه أنزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين. انتهى. وفيه تطويل.
وإنه، أي القرآن، * (لفى زبر الاولين) *: أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة، منبه عليه مشار إليه. وقيل: إن معانيه فيها، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة، على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية، حيث قيل: * (وإنه لفى زبر الاولين) *، لكون معانيه فيها. وقيل: الضمير عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي إن ذكره ورسالته في الكتب الإلهية المتقدمة يكون التفاتا، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله: * (على قلبك لتكون) * إلى ضمير الغيبة، وكذلك قبل في أن يعلمه، أي أن يعلم محمدا صلى الله عليه وسلم)، وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح. وقرأ الأعمش: لفي زبر، بسكون الباء، والأصل الضم، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره، كون علماء بني إسرائيل يعلمونه، أي أو لم يكن لهم علامة على صحة علم بني إسرائيل به؟ إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور النقلية إلى
(٣٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 ... » »»