تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٧٥
، فصل لا نذر ولا هذر. انتهى. ولما كان تعالى قد كمل نفس نبيه داود بالحكمة، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة فقال: * (وفصل الخطاب) *.
* (وهل أتاك نبؤا الخصم) *: لما أنثى تعالى على داود عليه السلام بما أثنى، ذكر قصته هذه، ليعلم أن مثل قصته لا يقدح في الثناء عليه والتعظيم لقدره، وإن تضمنت استغفاره ربه، وليس في الاستغفار ما يشعر بارتكاب أمر يستغفر منه، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة. ومجئ مثل هذا الاستفهام إنما يكون لغرابة ما يجيء معه من القصص، كقوله: * (وهل أتاك حديث موسى) *، فيتهيأ المخاطب بهذا الاستفهام لما يأتي بعده ويصغي لذلك. وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحا، وتكلمنا على ألفاظ الآية. والنبأ: الخبر، فالخبر أصله مصدر، فلذلك تصلح للمفرد والمذكر وفروعهما، وهنا جاء للجمع، ولذلك قال: * (إذ تسوروا) *: إذ دخلوا، كما قال الشاعر:
* وخصم يعدون الدخول كأنهم * قروم غيارى كل أزهر مصعب * والظاهر أنهم كانوا جماعة، فلذلك أتى بضمير الجمع. فإن كان المتحاكمان اثنين، فيكون قد جاء معهم غيرهم على جهة المعاضدة أو المؤانسة، ولا خلاف أنهم كانوا ملائكة، كذا قال بعضهم. وقيل: كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، والأول أشهر. وقيل: الخصم هنا اثنان، وتجوز في العبارة فأخبر عنهما أخبار ما زاد على اثنين، لأن معنى الجمع في التثنية. وقيل: معنى خصمان: فريقان، فيكون تسوروا ودخلوا عائدا على الخصم الذي هو جمع الفريقين، ويدل على أن خصمان بمعنى فريقان قراءة من قرأ: بغى بعضهم على بعض. وقال تعالى: * (هاذان خصمان اختصموا فى ربهم) *، بمعنى: فأما إن هذا أخي. وما روي أنه بعث إليه ملكان، فالمعنى: أن التحاكم كان بين اثنين، ولا يمتنع أن يصحبهما غيرهما. وأطلق على الجميع خصم، وعلى الفريقين خصمان، لأن من جاء مع متخاصم لمعاضدة فهو في سورة خصم، ولا يبعد أن تطلق عليه التسمية، والعامل في الظرف، وهو إذ أتاك، قاله الحوفي ورد بأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا يقع إلا في عهده، لا في عهد داود. وقال ابن عطية، وأبو البقاء: العامل فيه نبأ ورد بما رد به ما قبله أن النبأ الواقع في عهد داود عليه السلام لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم). وإذا أردت بالنبأ القصة في نفسها، لم يكن ناصبا. وقيل: العامل فيه محذوف تقديره: وهل أتاك تخاصم الخصم؟ قاله الزمخشري. ويجوز أن ينتصب بالخصم، لما فيه من معنى الفعل. وإذ دخلوا بدل من إذ الأولى؛ وقيل: ينتصب بتسوروا. وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما، فتسورا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان.
قال ابن عباس: جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما لجميع بني إسرائيل، فيعظهم ويبكيهم. فجاءوه في غير القضاء، ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه، فخاف أن يؤذوه. وقيل: كان ذلك ليلا، ويحتمل أن يكون فزعه من أجل أن أهل ملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فينكون فزعه على فساد السيرة، لا من الداخلين. وقال أبو الأحوص: فزع منهم لأنهما دخلا عليه، وكل منهما آخذ برأس صاحبه. وقيل: فزع منهم لما رأى من تسورهم على موضع مرتفع جدا لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد. وقيل: إنهما قالا: لم نتوصل إليك إلا بالتسور لمنع الحجاب، وخفنا تفاقم الأمر بيننا، فقبل داود عذرهم. ولما أدركوا منه الفزع قالوا: * (لا تخف) *، أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم. * (خصمان) *: يحتمل أن يكون هذا موصولا بقولهما: * (لا تخف) *، بادر بإخبار ما جاءا إليه. ويحتمل أن يكون سألهم: ما أمركم؟ فقالوا: خصمان، أي نحن خصمان. * (بغى) *: أي
(٣٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 370 371 372 373 374 375 376 377 378 379 380 ... » »»