عليه السلام، إثر فراغ لفظ المدعي، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب، فقيل ذلك على تقدير، أي لئن كان ما تقول، * (لقد ظلمك) *. وقيل: ثم محذوف، أي فأقر المدعي عليه فقال: * (لقد ظلمك) *، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدعي عليه، لأنه معلوم من الشرائع كلها، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه. فأما ما قاله الحليمي من أنه رأى في المدعي مخايل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم، كما تقول، فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه، فاستعجل بقوله: * (لقد ظلمك) *، فقوله ضعيف لا يعول عليه. وروي أن داود، عليه السلام، لما سمع كلام الشاكي قال للآخر: ما تقول؟ فأقر فقال له: لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك، وقال للثاني: * (لقد ظلمك) *؛ فتبسما عند ذلك وذهبا، ولم يرهما لحينه، ورأى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه. وأضاف المصدر إلى المفعول، وضمن السؤال معنى الإضافة، أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال والطلب، ولذلك عداه بإلى.
* (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض) *: هذا من كلام داود، ويدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيرا. والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، الواحد خليط. قصد داود بهذا الكلام الموعظة الحسنة، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكره إليهم الظلم، وأن يسلي المظلوم عن ما جرى عليه من خليطه، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة. وقرئ: ليبغي، بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة، وأصله: ليبغين، كما قال:
اضرب عنك الهموم طارقها يريد: اضربن، ويكون على تقدير قسم محذوف ذلك القسم، وجوابه خير لأن. وعلى قراءة الجمهور، يكون ليبغي خبرا لأن. وقرئ: ليبغ، بحذف الياء كقوله:
محمد تفد نفسك كل نفس أي: تفدي على أحد القولين. و * (قليل) *: خبره مقدم، وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجب، وهم مبتدأ. * (وظن * داوود) *: لما كان الظن الغالب يقارب العلم، استعير له، ومعناه: وعلم داود وأيقن أنا ابتليناه بمحاكمة الخصمين. وأنكر ابن عطية مجيء الظن بمعنى اليقين. وقال: لسنا نجده في كلام العرب، وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ودلالة اليقين التام، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون: ظن بمعنى أيقن، وطول ابن عطية في ذلك بما يوقف عليه في كتابه. وقرأ الجمهور: * (فتناه) *؛ وعمر بن الخطاب، وأبو رجاء، والحسن: بخلاف عنه، شد التاء والنون مبالغة؛ والضحاك: أفتناه، كقوله:
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت وقتادة، وأبو عمرو في رواية؛ يخفف التاء والنون، والألف ضمير الخصمين. * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) *، راكعا: حال، والخرور: الهوي إلى الأرض. فإما أنه عبر بالركوع عن السجود، وإما أنه ذكر أول أحوال الخرور، أي راكعا ليسجد. وقال الحسن: لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع. وقال الحسن بن الفضل: أخر من ركوعه، أي سجد بعد أن كان راكعا وقال قوم: يقال خر لمن ركع، وإن لم ينته إلى الأرض. والذي يذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه، إذا كان منفردا في محرابه لعبادة ربه. فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم، كما قص الله تعالى، وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنقاذ من الله له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان طنه، فاستغفر من ذلك الظن، حيث أخلف ولم يكن يقع مظنونه، وخر ساجدا، أو رجع إلى الله تعالى فغفر له ذلك الظن؛ ولذلك أشار بقوله: * (فغفرنا له ذالك) *،