تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢٧٤
جوازه سماع من العرب. ولما أجابوا الله بدؤا بتنزيهه وبرائته من كل سوء، كما قال عيس عليه السلام: * (سبحانك) *، ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة، أي * (أنت ولينا) *، إذ موالاة بيننا وبينهم.
وفي قولهم: * (بل كانوا يعبدون الجن) *، إشعار لهم بما عبدوه، وإن لم يصرح به. لكن الإضراب ببل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذ لم يكن راضيا بعبادة عابده مريدا لها، لم يكن ذلك العابد عابدا له حقيقة، فلذلك قالوا: * (بل كانوا يعبدون الجن) *، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم ومراداتهم عابدون لهم حقيقة، فلذلك قالوا: * (بل كانوا يعبدون الجن) *، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال. وقيل: صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها. وقال ابن عطية: لم تنف الملائكة عبادة البشر إياها، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة. وعبادة البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم، وسماعهم من وسوستهم واغوائهم، فهذا نوع من العبادة. وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت، في سورة الأنعام وغيرها. انتهى. وإذا هم قد عبدوا الجن، فما وجه قولهم: أكثرهم مؤمنون، ولم يقولوا جميعهم، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن؟ والجواب أنهم لم يدعوا إلا حاطة، إذ قد يكون في الكفارة من لم يطلع الملائكة عليهم، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل القلب، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم، لأن ذلك لله تعالى. ومعنى * (مؤمنون) *: مصدقون أنهم معبودوهم، وقيل: مصدقون أنهم بنات الله، وأنهم ملائكة، * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) *. وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع، فلا يرد عليه شيء، لكنه ليس موضوع اللغة.
* (فاليوم) *: هو يوم القيامة، والخطاب في * (بعضكم) *، قيل: للملائكة، لأنهم المخاطبون في قوله: * (أهؤلاء إياكم) *، ويكون ذلك تبكيتا للكفار حين بين لهم أن من عبدوه لا ينفع ولا يضر، ويؤيده: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) *، ولأن بعده: * (ونقول للذين ظلموا) *، ولو كان الخطاب للكفار، لكان التركيب فذوقوا. وقيل: الخطاب للكفار، لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم، ويكون قوله: ويقول، تأكيدا لبيان حالهم في الظلم. وقيل: هو خطاب من الله لمن عبد ومن عبد. وقوله: * (نفعا) *، قيل: بالشفاعة، * (ولا ضرا) * بالتعذيب. وقيل هنا: * (التى كنتم بها تكذبون) *، وفي السجدة: * (الذي كنتم به تكذبون) * كل منهما، أي من العذاب ومن النار، لأنهم هنا لم يكونوا ملتبسين بالعذاب، بل ذلك أول مارأوا النار، إذ جاء عقيب الحشر، فوصفت لهم النار بأنها هي التي كنتم تكذبون بها. وأما الذي في السجدة، فهم ملابسو العذاب، مترددون فيه لقوله: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) *، فوصف لهم العذاب الذي هم مباشروه، وهو العذاب المؤبد الذي أنكروه.
والإشارة بقوله: ما * (هاذا إلا رجل) *، إلى تالي الآيات، المفهوم من قوله: * (وإذا تتلى) *، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم). وحكي تعالى مطاعنهم عند تلاوة القرآن عليهم، فبدؤوا أولا بالطعن في التالي، فإنه يقدح في معبودات آلهتكم. ثانيا فيما جاء به الرسول من القرآن، بأنه كذب مختلق من عنده، وليس من عند الله. وثالثا: بأن ما جاء به سحر واضح لما اشتمل على ما يوجب الاستمالة وتأثير النفوس له وإجابته. وطعنوا في الرسول، وفيما جاء به، وفي وصفه، واحتمل أن يكون ذلك صدرمن مجموعهم، واحتمل أن تكون كل جملة منها قالها قوم غير من قال الجملة الأخرى. وفي قوله: * (لما جاءهم) * دليل على أنه حين جاءهم لم يفكروا فيه، بل بادروه بالإنكار ونسبته إلى السحر، ولم يكتفوا بقولهم، إنه سحر حتى وصفوه بأنه واضح لمن يتأمله. وقيل: إنكار القرآن والمعجزة كان متفقا عليه من المشركين وأهل الكتاب، فقال تعالى: * (وقال الذين كفروا للحق) *، على وجه العموم.
* (وما ءاتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير * وكذب الذين من قبلهم وما
(٢٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 269 270 271 272 273 274 275 276 277 278 279 ... » »»