تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٢١٤
إلى حذفها، والثاني هو الوجه، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف، أي يمنعكم من مراد الله. والقائلين لإخوانهم كانوا، أي المنافقون، يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقولون: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لا تهمهم أبو سفيان، فخلوهم. وقيل: هم اليهود، كانوا يقولون لأهل المدينة: تعالوا إلينا وكونوا معنا. وقال ابن زيد: انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يوم الأحزاب، فوجد شقيقه عنده سويق ونبيذ، فقال: أنت هاهنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم) بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إليه، فقد أحيط بك وبصاحبك. والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا، فقال: كذبت والذي يحلف به، ولأخبرنه بأمرك. فذهب ليخبره، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية. وقال ابن السائب: هي في عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة. فإذا جاءهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم. وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن يجدوا بدا من إتيانه، فيأتون ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة، فنزلت. وتقدم الكلام في * (هلم) * في أواخر الأنعام. وقال الزمخشري: وهلموا إلينا، أي قربوا أنفسكم إلينا، قال: وهو صوت سمي به فعل متعد مثل: احضر وأقرب. انتهى.
والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه؛ فقيل: هو مركب من هاالتي للتنبيه ولم، وهو مذهب البصريين. وقيل: من هل وأم، والكلام على ترجيح المختار منهما مذكور في النحو. وأما قوله: سمي به فعل متعد، ولذلك قدر * (هلم إلينا) *: أي قربوا أنفسكم إلينا؛ والنحويون: أنه متعد ولازم؛ فالمتعدي كقوله: * (قل هلم شهداءكم) *: أي احضروا شهداءكم، واللازم كقوله: * (هلم إلينا) *، وأقبلوا إلينا. * (ولا يأتون البأس) *: أي القتال، * (إلا قليلا) *. يخرجون مع المؤمنين، يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه، كقوله: * (ما قاتلوا إلا قليلا) *. وقلته إما لقصر زمانه، وإما لقلة عقابه، وإنه رياء وتلميع لا تحقيق.
* (أشحة) *: جمع شحيح، وهو البخيل، وهو جمع لا ينقاس، وقياسه في الصفة المضعفة العين واللام فعلاء نحو: خليل وأخلاء؛ فالقياس أشحاء، وهو مسموع أيضا، ومتعلق الشح بأنفسهم، أو بأحوالهم، أو بأموالهم في النفقات في سبيل الله، أو بالغنيمة عند القسم، أقوال. والصواب: أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة للمؤمنين. وقال الزمخشري: * (أشحة عليكم) * في وقت الحرب، أضناء بكم، يترفرفون عليكم، كما يفعل الرجل بالذاب عن المناضل دونه عند الخوف. * (ينظرون إليك) * في تلك الحالة، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت، حذرا وخورا ولواذا، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة، نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير، وهو المال والغنيمة وسوء تلك الحالة الأولى، واجترؤوا عليكم وضربوكم بألسنتهم، وقالوا: وفروا قسمتنا، فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم، وبنا نصرتم عليهم. انتهى. وهو تكثير وتحميل للفظ ما لا يحتمله كعادته. وقرأ الجمهور: * (أشحة) *، بالنصب. قال الفراء: على الذم، وأجاز نصبه على الحال، والعامل يعوقون. وقال الطبري: حال من * (هلم إلينا) *. وقال الزجاج: حال من * (ولا يأتون) *؛ وقيل: حال من * (المعوقين) *؛ وقيل: من * (* القائلين) *، ورد القولان بأن فيهما تفريقا بين الموصول وما هو من تمام صلته. وقرأ ابن أبي عبلة: أشحة، بالرفع على إضمار مبتدأ، أي هم أشحة.
* (عليكم فإذا جاء الخوف) * من العدو، وتوقع أن يستأصل أهل المدينة، لاذ هؤلاء المنافقون بك ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر، الذي يغشى عليه من الموت. و * (تدور) *: في موضع الحال، أي دائرة أعينهم. * (كالذى) *: في موضع الصفة لمصدر محذوف، وهو مصدر مشبه، أي دورانا كدوران عين الذي يغشى
(٢١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 209 210 211 212 213 214 215 216 217 218 219 ... » »»