تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٦٦
وفساد معتقد من يشركها بالله، بضربه هذا المثل، ومعناه: أنكم أيها الناس، إذا كان لكم عبيد تملكونهم، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير. وقال السدي: كانوا يورثون آلهتهم، فنزلت. وقيل: لما نزلت، قال أهل مكة: لا يكون ذلك أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (فلم يجوز لربكم)؟ ومن في: * (من أنفسكم) * لابتداء الغاية، كأنه قال: أخذ مثلا، وافترى من أقرب شيء منكم، وهو أنفسكم، ولا يبعد. ومن في: * (مما ملكت) * للتبعيض، ومن في: * (من شركاء) * زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. يقول: ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله، فكيف ترضون شريكا لله، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد؟
وقال أبو عبد الله الرازي: وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفة. فالمشابهة معلومة، والمخالفة من وجوه: قوله: * (من أنفسكم) *: أي من نسلكم، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها. وقوله: * (مما ملكت أيمانكم) *: أي عبيدكم، والملك ما قبل النقل بالبيع، والزوال بالعتق، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك. فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية، حالة الرق، فكيف يشرك الله مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية؟ وقوله: * (فيما * رزقناكم) *: يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه حقيقة، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة؟ انتهى، وفيه بعض تلخيص. و * (شركاء) * في موضع رفع بالابتداء، و * (فيما * رزقناكم) * متعلق به، و * (لكم) * الخبر، و * (مما ملكت) * في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها وانتصب على الحال، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور، والواقع خبرا، وهو مقدر بعد المبتدأ. وما في فيما * (رزقناكم) * واقعة على النوع، والتقدير: هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم؟ ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر، كما تقول: لزيد في المدينة مبغض، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ، وفي المدينة الخبر، و * (فأنتم فيه سواء) * جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي، وفيه متعلق بسواء، و * (تخافونهم) * خبر ثان لأنتم، والتقدير: فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضا أيها السادة. والمقصود نفي الشركة والاستواء والخوف، وليس النفي منسحبا على الجواب وما بعده فقط، كأحد وجهي ما تأتينا فتحدثنا، أي ما تأتينا فتحدثنا، إنما تأتي ولا تحدث، بل هو على الوجه الآخر، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي ليس منك إتيان فلا يكون حديث. وكذلك هذا ليس لهم شريك، فلا استواء ولا خوف. وقرأ الجمهور:، بالنصب، أضيف المصدر إلى الفاعل؛ وابن أبي عبيدة: بالرفع، أضيف المصدر للمفعول، وهما وجهان حسنان، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل.
* (كذالك) *: أي مثل ذلك التفصيل، * (نفصل الآيات) *: أي نبينها، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة؟ وقرأ الجمهور: نفصل، بالنون، حملا على رزقناكم؛ وعباس عن ابن عمر: بياء الغيبة، رعيا لضرب، إذ هو مسند للغائب. وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين، لافتقار بعضهم إلى بعض، كأنه يقول: الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح. والإضراب ببل في قوله: * (بل اتبع) * جاء على ما تضمنته الآية، إذ المعنى: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من إشراكهم بالله، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم، لأنه قد يكون هوى للإنسان، وهو يعلم. و * (الذين ظلموا) *: هم المشركون، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم، لا يرغمهم عن هواهم علم، إذ هم خالون من العلم
(١٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 161 162 163 164 165 166 167 168 169 170 171 ... » »»