تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢٨٥
ولما ذكر انتفاء علمهم الحق وإعراضهم أخبر أنه ما أرسل * (من رسول) * إلا جاء مقررا لتوحيد الله وإفراده بالإلهية والأمر بالعبادة. ولما كان * (من رسول) * عاما لفظا ومعنى، أفرد على اللفظ في قوله إلا يوحى إليه ثم جمع على المعنى في قوله * (فاعبدون) * ولم يأت التركيب فاعبدني، ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته، وهذه العقيدة من توحيد الله لم تختلف فيها النبوات وإنما وقع الاختلاف في أشياء من الأحكام. وقرأ الأخوان والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والقطعي وابن غزوان عن أيوب وخلف وابن سعدان وابن عيسى وابن جرير * (نوحى) * بالنون وباقي السبعة بالياء وفتح الحاء، واختلف عن عاصم.
ثم نزه تعالى نفسه عما نسبوا إليه من الولد. قيل: ونزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت النصارى نحو هذا في عيسى واليهود في عزير ثم أضرب تعالى عن نسبة الولد إليه فقال * (بل عباد مكرمون) * ويشمل هذا اللفظ الملائكة وعزيرا والمسيح، ويظهر من كلام الزمخشري أنه مخصوص بالملائكة قال: نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم * (عباد) * والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم * (مكرمون) * مقربون عندي مفضلون على سائر العباد لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرمتهم من زعم أنهم أولادي تعاليت عن ذلك علوا كبيرا انتهى. وقرأ عكرمة * (مكرمون) * بالتشديد والجمهور بالتخفيف، وقرأ * (لا يسبقونه) * بكسر الباء. وقرئ بضمها من سابقني فسبقته أسبقه، والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله: فلا يسبق قولهم قوله. وأل في بالقول نابت مناب الضمير على مذهب الكوفيين أي بقولهم وكذا قال الزمخشري: والمراد بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة أو الضمير محذوف أي بالقول منهم، وذلك على مذهب البصريين.
وهم بأمره يعملون) * فكما أن قولهم تابع لقوله كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عمالا ما لم يؤمروا به، وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره.
ثم أخبر تعالى أنه * (*) * فكما أن قولهم تابع لقوله كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عمالا ما لم يؤمروا به، وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره.
ثم أخبر تعالى أنه * (يعلم ما بين أيديهم) * أي ما تقدم من أفعالهم وأقوالهم، والحوادث التي لها إليهم تسبب وما تأخر وعلمه بذلك يجري مجرى السبب لطاعتهم لما علموه عالما بجميع المعلومات وظواهرهم وبواطنهم كان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع والدؤوب على العبادة. قال ابن عباس: * (يعلم) * ما قدموا وما أخروا من أعمالهم. وقال نحوه عمار بن ياسر، قال: ما عملوا وما لم يعملوا بعد، وقيل * (ما بين أيديهم) * الآخرة * (وما خلفهم) * الدنيا. وقيل عكس ذلك. وقيل * (يعلم) * ما كان قبل أن خلقهم وما كان بعد خلقهم.
ولما كانوا مقهورين تحت أمره وملكوته وهو محيط بهم لم يجسروا على أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في زيادة الثواب والتعظيم، ثم * (هم) * مع ذلك * (من خشيته مشفقون) * متوقعون حذرون لا يأمنون مكر الله. وقال ابن عباس: * (لمن ارتضى) * هو من قال: لا إله إلا الله وشفاعتهم: الاستغفار. وقال مجاهد لمن ارتضاه الله أن يشفع. وقيل: شفاعتهم في القيامة وفي الصحيح أنهم يشفعون في الدنيا والآخرة.
وبعد أن وصف كرامتهم عليه وأثنى عليهم وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية فاجأ بالوعيد الشديد وأنذر بعذاب جهنم من ادعى منهم أنه إله وذلك على سبيل العرض والتمثيل مع علمه بأنه لا يكون كقوله * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد. وقرأ الجمهور * (نجزيه) * بفتح النون. وقرأ أبو عبد الرحمن المقري بضمها أراد نجزئه بالهمز من أجزائي كذا كفاني، ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء كذلك أي مثل هذا الجزاء * (نجزى الظالمين) * وهم الكافرون والواضعون الشيء في غير موضعه، وأداة الشرط
(٢٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 280 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 ... » »»