تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢٨٢
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى لأنهم مع إقرارهم بأن الله خالق السماوات والأرض وبأنه قادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى منكرين للبعث، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة؟ قلت: الأمر كما ذكرت ولكنهم بادعائهم الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشاء لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور، والإنشاء من جملة المقدورات وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة ونحو قوله * (من الارض) * قولك: فلان من مكة أو من المدينة، تريد مكي أو مدني، ومعنى نسبتها إلى الأرض الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض لا أن الآلهة أرضية وسماوية، من ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أين ربك؟) فأشارت إلى السماء فال: (إنها مؤمنة) لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام لا إثبات السماء مكانا لله تعالى. ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض.
فإن قلت: لا بد من نكتة في قوله * (هم) * قلت: النكتة فيه إفادة معنى الخصوصية كأنه قيل * (أم اتخذوا الهة) * لا تقدر على الإنشاء إلا هم وحدهم انتهى.
و * (اتخذوا) * هنا يحتمل أن يكون المعنى فيها صنعوا وصوروا، و * (من الارض) * متعلق باتخذوا، ويحتمل أن يكون المعنى جعلوا الآلهة أصناما من الأرض كقوله * (وإذ قال إبراهيم) * وقوله * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * وفيه معنى الاصطفاء والاختيار. وقرأ الجمهور: * (ينشرون) * مضارع أنشر ومعناه يحيون. وقال قطرب: معناه يخلقون كقوله * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *. وقرأ الحسن ومجاهد * (ينشرون) * مضارع نشر، وهما لغتان نشر وانشر متعديان، ونشر يأتي لازما تقول أنشر الله الموتى فنشروا أي فحيوا، والضمير في * (فيهما) * عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم. و * (إلا) * صفة لآلهة أي آلهة غير * (الله) * وكون * (إلا) * يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشد سيبويه رحمه الله:
* وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان * قال الزمخشري: فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأن لو بمنزلة إن في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله * (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) * وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ولا يصح إيجابه، والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما * (لفسدتا) * وفيه دلالة على أمرين أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده كقوله * (إلا الله) *.
فإن قلت: لم وجب الأمران قلت: لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف.
وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز علي من دم ناظري ولكن لا يجتمع فحلان في شول وهذا ظاهر. وأما طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجادل وطراد ولأن هذه الأفعال محتاجة إلى تلك
(٢٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 277 278 279 280 281 282 283 284 285 286 287 ... » »»