تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢٧٦
أو على أن * (الذين) * مبتدأ * (وأسروا النجوى) * خبره قاله الكسائي فقدم عليه، والمعنى: وهؤلاء * (أسروا * النجوى) * فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم أنه ظلم، أو على أنه فاعل بفعل القول وحذف أي يقول * (الذين ظلموا) * والقول كثيرا يضمر واختاره النحاس قال ويدل على صحة هذا أن بعده هل هذا إلا بشر مثلكم. وقيل التقدير أسرها الذين ظلموا. وقيل: * (الذين) * خبر مبتدأ محذوف، أي هم * (الذين) * والنصب على الذم قاله الزجاج، أو على إضمار أعني قاله بعضهم. والجر على أن يكون نعتا للناس أو بدلا في قوله * (اقترب للناس) * قاله الفراء وهو أبعد الأقوال.
* (هل هاذا إلا بشر مثلكم) * استفهام معناه التعجب أي كيف خص بالنبوة دونكم مع مماثلته لكم في البشرية، وإنكارهم وتعجبهم من حيث كانوا يرون أن الله لا يرسل إلا ملكا. و * (أفتأتون السحر) * استفهام معناه التوبيخ و * (السحر) * عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن والذكر المتلو عليهم، أي أفتحضرون * (السحر وأنتم تبصرون) * أنه سحر وأن من أتى به هو * (بشر مثلكم) * فكيف تقبلون ما أتى به وهو سحر، وكانوا يعتقدون أن الرسول من عند الله لا يكون إلا ملكا وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر، وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقتان بقوله: * (وأسروا النجوى) * وأنهما محكيتان بقوله للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي، فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى.
وقال الزمخشري: في محل النصب بدلا من * (النجوى) * أي * (وأسروا) * هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرا انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وأيوب وخلف وابن سعدان وابن جبير الأنطاكي وابن جرير * (قال ربى) * على معنى الخبر عن نبيه عليه الصلاة والسلام. وقرأ باقي السبعة قل على الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم) * (يعلم) * أقوالكم هذه، وهو يجازيكم عليها و * (القول) * عام يشمل السر والجهر، فكان في الإخبار بعلمه القول علم السر وزيادة، وكان آكد في الاطلاع على نجواهم من أن يقول يعلم سرهم. ثم بين ذلك بقوله * (وهو السميع العليم) * * (السميع) * لأقوالكم * (العليم) * بما انطوت عليه ضمائركم.
ولما ذكر تعالى عنهم أنهم قالوا إن ما أتى به سحر ذكر اضطرابهم في مقالاتهم فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه و * (قالوا) * ما يأتي به إنما هو * (أضغاث أحلام) * وتقدم تفسيرها في سورة يوسف عليه السلام، ثم أضربوا عن هذا فقالوا * (بل افتراه) * أي اختلقه وليس من عند الله، ثم أضربوا عن هذا فقالوا * (بل هو شاعر) * وهكذا المبطل لا يثبت على قول بل يبقى متحيرا، وهذه الأقوال الظاهر أنها صدرت من قائلين متفقين انتقلوا من قول إلى قول أو مختلفين قال كل منهم مقالة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تنزيلا من الله لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث انتهى. وقال ابن عطية ثم حكى قول من قال إنه شاعر وهي مقالة فرقة عامية لأن بنات الشعر من العرب لم يخف عليهم بالبديهة، وإن مباني القرآن ليست مباني شعر. وقال أبو عبد الله الرازي: حكى الله عنهم هذه الأقوال الخمسة وترتيب كلامهم أن كونه بشرا مانع من كونه رسولا لله سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدار البشر قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرا وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا إنه أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراء، وإن ادعينا أنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعر، وعلى جميع هذه التقديرات لا يثبت كونه معجزا.
ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا * (بل قالوا أضغاث أحلام بل) * اقترحوا من الآيات ما لا إمهال بعدها كالآيات في قوله * (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا
(٢٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 271 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 ... » »»