تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢٤٢
* (صنعوا) * هنا زوروا وافتعلوا كقوله * (تلقف ما يأفكون) *. وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن علي * (كيد * ساحر) * بالنصب مفعولا لصنعوا وما مهيئة. وقرأ أبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وحمزة والكسائي سحر بكسر السين وإسكان الحاء بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه أو بذاته، أو بين الكيد لأنه يكون سحرا وغير سحر كما تبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو.
وقرأ الجمهور ساحر اسم فاعل من سحر، وأفرد ساحر من حيث أن فعل الجميع نوع واحد من السحر، وذلك الحبال والعصي فكأنه صدر من ساحر واحد لعدم اختلاف أنواعه. وقال الزمخشري: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى أن قوله * (ولا يفلح الساحر) * أي هذا الجنس انتهى.
وعرف في قوله * (ولا يفلح الساحر) * لأنه عاد على ساحر النكرة قبله كقوله * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) *. وقال الزمخشري: إنما نكر يعني أولا من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول العجاج:
في سعي دنيا طال ما قد مدت وفي حديث عمر رضي الله عنه: لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة المراد تنكير الأمر كأنه قال: إنما صنعوا كيد سحري وفي سعي دنياوي وأمر دنياوي وأخراوي انتهى. وقول العجاج. في سعي دنيا، محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى، ولا يستعمل تأنيثه إلا بالألف واللام أو بالإضافة وأما قول عمر فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة.
ومعنى * (ولا يفلح) * لا يظفر ببغيته * (حيث أتى) * أي حيث توجه وسلك. وقالت فرقة معناه أن الساحر بقتل حيث تقف وهذا جزاء من عدم الفلاح. وقرأت فرقة أين أتى وبعد هذا جمل محذوفة، والتقدير فزال إيجاس الخيفة وألقى ما في يمينه وتلقفت حبالهم وعصيهم ثم انقلبت عصا، وفقدوا الحبال والعصي وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر * (فألقى السحرة سجدا) * وجاء التركيب * (فألقى السحرة) * ولم يأت فسجدوا كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم فصنع بهم ذلك، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. وقدم موسى في الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر من الإعجاز، وأخر موسى لأجل الفواصل أيضا كقوله * (لكان لزاما وأجل مسمى) * وأزواجا من نبات إذا كان شتى صفة لقوله أزواجا ولا فرق بين قام زيد وعمرو وقام عمرو وزيدا إذا لوأ ولا تقتضي ترتيبا على أنه يحتمل أن يكون القولان من قائلين نطقت طائفة بقولهم رب موسى وهارون، وطائفة بقولهم: رب هارون وموسى ولما اشتركوا في المعنى صح نسبة كل من القولين إلى الجميع. وقيل: قدم * (هارون) * هنا لأنه كان أكبر سنا من * (موسى) *. وقيل لأن فرعون كان ربى موسى فبدؤوا بهارون ليزول تمويه فرعون أنه ربي موسى فيقول أنا ربيته. وقالوا: رب هارون وموسى ولم يكتفوا بقولهم برب العالمين للنص على أنهم آمنوا * (برب) * هذين وكان فيما قبل يزعم أنه رب العالمين.
وتقدم الخلاف في قراءة * (أمنتم) * وفي لأقطعن ولأصلبن في الأعراف. وتفسير نظير هذه الآية فيها وجاء هناك آمنتم به وهنا له، وآمن يوصل بالباء إذا كان بالله وباللام لغيره في الأكثر نحو * (فما ءامن لموسى) * * (لن نؤمن لك) * * (وما أنت بمؤمن لنا) * * (فئامن له لوط) * واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى وأن يعود على الرب، وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم، ولما كان الجذع مقرا للمصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عدي الفعل بفي التي للوعاء. وقيل في بمعنى على. وقيل: نقر فرعون
(٢٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 237 238 239 240 241 242 243 244 245 246 247 ... » »»