تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢٣٥
من رأى البصرية، ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل و * (ءاياتنا) * ليس عاما إذ لم يره تعالى جميع الآيات، وإنما المعنى آياتنا التي رآها، فكانت الإضافة تفيد ما تفيده الألف واللام من العهد. وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاء التوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة. وقيل: المعنى آيات بكمالها وأضاف الآيات إليه على حسب التشريف كأنه قال آيات لنا. وقيل: يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبي صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به * (فكذب * بها) * جميعا * (وأبى) * أن يقبل شيئا منها انتهى. وقاله الزمخشري وفيه بعد لأن الإخبار بالشيء لا يسمى رؤية إلا بمجاز بعيد.
وقيل: * (أريناه) * هنا من رؤية القلب لا من رؤية العين، لأنه ما كان أراه في ذلك الوقت إلا العصا واليد البيضاء أي ولقد أعلمنا * (كلها فكذب) * هي الآيات التسع. قيل: ويجوز أن يكون أراد بالآيات آيات توحيده التي أظهرها لنا في ملكوت السماوات والأرض فيكون من رؤية العين. وقال ابن عطية وأبي: يقتضي كسب فرعون وهذا الذي يتعلق به الثواب والعقاب، ومتعلق التكذيب محذوف فالظاهر أنه الآيات واحتمل أن يكون التقدير * (فكذب) * موسى * (وأبى) * أن يقبل ما ألقاه إليه من رسالته.
قيل: ويجوز أن يكون أراد وكذب أنها من آيات الله وقال: من سحر، ولهذا * (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى * موسى) * ويبعد هذا القول قوله * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب * السماوات والارض * بصائر) * وقوله * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * فيظهر أنه كذب لظلمه لا أنه التبس عليه أنها آيات سحر. وفي قوله * (أجئتنا لتخرجنا) * وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى إذ علم أنه على الحق وأنه غالبه على ملكه لا محالة، وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له جدا إذ الإخراج من الموطن مما يشق وجعله الله مساويا للقتل في قوله * (أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * وقوله * (بسحرك) * تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملك مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر، وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة، وأن المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما تتعذر معارضته فقال * (فلنأتينك بسحر مثله) * ويدل على أن أمر موسى عليه السلام كان قد قوي وكثر منعته من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس، إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه، وأرضهم هي أرض مصر وخاطبه بقوله * (بسحرك) * لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرنا من قبله * (فلنأتينك) * جواب لقسم محذوف، أوهم الناس أن ما جاء به موسى إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك، فطلب ضرب موعد للمناظرة بالسحر. والظاهر أن * (موعدا) * هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله * (قال موعدكم يوم الزينة) * ومعنى * (لا نخلفه) * أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكانا معلوما وينبوعه قوله * (موعدكم يوم الزينة) *.
وقال القشيري: الأظهر أنه مصدر ولذلك قال * (لا نخلفه) * أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئا ولا ينجزه. وقال الزمخشري: إن جعلته زمانا نظرا في قوله * (موعدكم يوم الزينة) * مطابق له لزمك شيئان أن نجعل الزمان مخلفا وأن يعضل عليك ناصب * (مكانا) * وإن جعلته مكانا لقوله * (مكانا) * لزمك أيضا أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله * (قال موعدكم يوم الزينة) * وقراءة الحسن غير مطابقة له * (مكانا) * جميعا لأنه قرأ * (يوم الزينة) * بالنصب فبقي أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد. ويجعل الضمير في * (نخلفه) * و * (مكانا) * بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: كيف طابقته قوله * (موعدكم يوم الزينة) * ولا بد من أن تجعله زمانا والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا لأنه لا بد لهم
(٢٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 230 231 232 233 234 235 236 237 238 239 240 ... » »»