تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٢١٤
متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف. وفي قوله * (ممن خلق) * تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله * (ممن خلق) * التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين.
وقال الزمخشري ويجوز أن يكون * (أنزلنا) * حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى. وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه. و * (العلى) * جمع العليا ووصف * (السماوات) * بالعلى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى، والظاهر رفع * (الرحمان) * على خبر مبتدأ محذوف تقديره هو * (الرحمان) *. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون بدلا من الضمير المستتر في * (خلق) * انتهى. وأرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه، و * (الرحمان) * لا يمكن أن يحل محل الضمير لأن الضمير عائد على من الموصولة و * (خلق) * صلة، والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط. وأجاز الزمخشري أن يكون رفع * (الرحمان) * على الابتداء قال يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالكسر. قال الزمخشري: صفة لمن خلق يعني لمن الموصولة ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون * (الرحمان) * صفة لمن فالأحسن أن يكون * (الرحمان) * بدلا من من، وقد جرى * (الرحمان) * في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل. وعلى قراءة الجر يكون التقدير هو * (على العرش استوى) * وعلى قراءة الرفع إن كان بدلا كما ذهب إليه ابن عطية فكذلك أو مبتدأ كما ذكره الزمخشري ففي موضع الخبر أو خبر مبتدأ كما هو الظاهر، فكيون * (الرحمان) * والجملة خبرين عن هو المضمر. وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة في الأعراف.
وما روي عن ابن عباس من الوقف على قوله * (على العرش) * ثم يقرأ * (استوى * له ما في السماوات) * على أن يكون فاعلا لاستوى لا يصح إن شاء الله.
ولما ذكر تعالى أنه اخترع السماوات والأرض وأنه استوى على العرش ذكر أنه تعالى * (له) * ملك جميع * (ما) * حوت * (السماوات والارض * وما بينهما وما تحت الثرى) * أي تحت الأرض السابعة قاله ابن عباس ومحمد بن كعب. وعن السدي: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة. وقيل: * (ما * تحت الثرى) * ما هو في باطن الأرض فيكون ذلك توكيدا لقوله * (وما فى الارض) * إلا إن كان المراد بفي الأرض ما هو عليها فلا يكون توكيدا. وقيل: المعنى أن علمه تعالى محيط بجميع ذلك لأنه منشئه فعلى هذا يكون التقدير * (له) * علم * (ما في السماوات) *.
ولما ذكر تعالى أولا إنشاء السماوات والأرض وذكر أن جميع ذلك وما فيهما ملكه ذكر تعالى صفة العلم وأن علمه لا يغيب عنه شيء والخطاب بقوله: * (وإن تجهر بالقول) * للرسول ظاهر أو المراد أمته، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلا بالجهر بالكلام جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر، أي إذا كان يعلم السر فأحرى أن يعلم الجهر والسر مقابل للجهر كما قال * (يعلم سركم وجهركم) * والظاهر أن * (أخفى) * أفعل تفضيل أي * (وأخفى) * من السر.
قال ابن عباس: * (السر) * ما تسره إلى غيرك، والأخفى ما تخفيه في نفسك وقاله الفراء. وعن ابن عباس أيضا * (السر) * ما أسره في نفسه، والأخفى ما خفي عنه مما هو فاعله وهو لا يعلمه. وعن قتادة: قريب من هذا. وقال مجاهد: * (السر) * ما تخفيه من الناس * (وأخفى) * منه الوسوسة. وقال ابن زيد * (السر) * سر الخلائق * (وأخفى) * منه سره تعالى وأنكر ذلك الطبري. وقيل: * (السر) * العزيمة * (وأخفى) * منه ما لم يخطر على
(٢١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 209 210 211 212 213 214 215 216 217 218 219 ... » »»