تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٧٠
الناس * (حجابا) * وظاهر الإرسال من الله إليها ومحاورة الملك تدل على أنها نبية. وقيل: لم تنبأ وإنما كلمها مثال بشر ورؤيتها للملك كما رأى جبريل عليه السلام في صفة دحية. وفي سؤاله عن الإيمان والإسلام. والظاهر أن الروح جبريل لأن الدين يحيا به ويوحيه أو سماه روحه على المجاز محبة له وتقريبا كما تقول لحبيبك: أنت روحي. وقيل عيسى كما قال وروح منه، وعلى هذا يكون قوله * (فتمثل) * أي الملك. وقرأ أبو حيوة وسهل * (روحنا) * بفتح الراء لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله * (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان) * أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا. وذكر النقاش أنه قرىء * (روحنا) * بتشديد النون اسم ملك من الملائكة وانتصب * (بشرا سويا) * على الحال لقوله وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا. قيل: وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه، ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت به من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبر لعفتها.
وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت فجلست في المشرقة وراء الجبل فأتاها الملك. وقيل: قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس، وتعليقها الاستعاذة على شرط تقواه لأنه لا تنفع الاستعاذة ولا تجدي إلا عند من يتقي الله أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. وجواب الشرط محذوف أي فإني أعوذ. وقال الزجاج: فستتعظ بتعويذي بالله منك. وقيل: فأخرج عني. وقيل: فلا تتعرض لي وقول من قال تقي اسم رجل صالح أو رجل فاسد ليس بسديد. وقيل: * (ءان) * نافية أي ما * (كنت تقيا) * أي بدخولك علي ونظرك إلي، ولياذها بالله وعياذها به وقت التمثيل دليل على أنه أول ما تمثل لها استعاذت من غير جري كلام بينهما.
* (قال) * أي جبريل عليه السلام * (إنما أنا رسول ربك) * الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك، وهو الذي استعذت به وقوله لها ذلك تطمين لها وإني لست ممن تظن به ريبه أرسلني إليك ليهب. وقرأ شيبة وأبو الحسن وأبو بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي ومن السبعة نافع وأبو عمر: وليهب أي ليهب ربك. وقرأ الجمهور وباقي السبعة * (لاهب) * بهمزة المتكلم وأسند الهبة إليه لما كان الإعلام بها من قبله.
وقال الزمخشري: * (لاهب لك) * لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الروع. وفي بعض المصاحف أمرني أن أهب لك، ويحتمل أن يكون محكي بقول محذوف أي قال * (لاهب) * والغلام اسم الصبي أول ما يولد إلى أن يخرج إلى سن الكهولة. وفسرت الزكاة هنا بالصلاح وبالنبوة وتعجبت مريم وعلمت بما ألقي في روعها أنه من عند الله. وتقدم الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها * (ولم أك بغيا) * تخصيص بعد تعميم لأن مسيس البشر يكون بنكاح وبسفاح.
وقال الزمخشري: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله * (من قبل أن تمسوهن) * أو لمستم النساء والزنا ليس كذلك إنما يقال فجربها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن يراعي فيه الكنايات والآداب انتهى. والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا، ووزنه فعول عند المبرد اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لأجل الياء كما كسرت في عصي ودلي. قيل: ولو كان فعيلا لحقتها هاء التأنيث فيقال بغية. وقال ابن جني في كتاب التمام: هي فعيل، ولو كانت فعولا لقيل بغوكما قيل فلان نهو عن المنكر انتهى. قيل: ولما كان هذا اللفظ خاصا بالمؤنث لم يحتج إلى علامة التأنيث فصار كحائض وطالق، وإنما يقال للرجل باغ. وقيل: بغى فعيل
(١٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 165 166 167 168 169 170 171 172 173 174 175 ... » »»