تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٤٩
ولما ضمن قضينا معنى أوحينا، تعدت تعديها بإلى أي: وأوحينا إلى لوط مقضيا مبتوتا، والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه. وأن دابر تفخيم للأمر وتعظيم له، وهو في موضع نصب على البدل من ذلك قاله الأخفش، أو على إسقاط الباء أي بأن دابرا قاله الفراء، وجوزه الحوفي. وأن دابر هؤلاء مقطوع كناية عن الاستئصال. وتقدم تفسير مثله في قوله: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) * ومصبحين داخلين في الصباح، وهو حال من الضمير المستكن في مقطوع على المعنى، ولذلك جمعه وقدره الفراء وأبو عبيد: إذا كانوا مصبحين، كما تقول: أنت راكبا أحسن منك ماشيا، فإن كان تفسير معنى فصحيح، وإن أراد الإعراب فلا ضرورة تدعو إلى هذا التقدير. وقرأ الأعمش وزيد بن علي: إن دابر بكسر الهمزة لما ضمن قضينا معنى أوحينا، فكان المعنى: أعلمنا، علق الفعل فكسر إن أو لما كان القضاء بمعنى الإيحاء معناه القول كسران، ويؤيده قراءة عبد الله. وقلنا: إن دابر وهي قراءة تفسير لا قرآن، لمخالفتها السواد. والمدينة: سدوم، وهي التي ضرب بقاضيها المثل في الجور.
* (وجآء أهل المدينة المدينة يستبشرون * قال إن هؤلآء ضيفى فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أولم ننهك عن العالمين * قال هاؤلآء بناتى إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن فى ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن فى ذلك لآية للمؤمنين) *: استبشارهم: فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط عليه السلام. والظاهر أن هذا المجيء ومحاورته مع قومه في حق أضيافه، وعرضه بناته عليهم، كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله، ولذلك سماهم ضيفان خوف الفضيحة، لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح.
وقد جاء ذلك مرتبا هكذا في هود، والواو لا ترتب. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المجيء والمحاورة بعد علمه بهلاكهم، وخاور تلك المحاورة على جهة التكتم عنهم، والإملاء لهم، والتربص بهم انتهى. ونهاهم عن فضحهم إياه لأن من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه. ولا تخزون من الخزي وهو الإذلال، أو من الخزاية وهو الاستحياء. وفي قولهم: أو لم ننهك دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف، أو يجبر أحدا، أو يدفع عنه، أو يمنع بينهم وبينة، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد. وكان هو صلى الله على نبينا وعليه يقوم بالنهي عن المنكر، والحجز بينهم وبين من تعرضوا له، فأوعدوه بأنه إن لم ينته أخرجوه. وتقدم الكلام في قوله: بناتي، ومعنى الإضافة في هود. وإن كنتم فاعلين شك في قبولهم لقوله: كأنه قال إن فعلتم ما أقول، ولكم ما أظنكم تفعلون. وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم. واللام في لعمرك لام الابتداء، والكاف خطاب للوط عليه السلام، والتقدير: قالت الملائكة للوط لعمرك، وكنى عن الضلالة والغفلة بالسكرة أي: تحبرهم في غفلتهم، وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به من ترك البنين إلى البنات. وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم)، وهو قول الجمهور ابن عباس، وأبو الحوراء، وغيرهما. أقسم تعال بحياته تكريما له. والعمر: بفتح العين وضمها البقاء، وألزموا الفتح القسم، ويجوز حذف اللام، وبذلك قرأ ابن عباس: وعمرك. وقال أبو الهيثم: لعمرك لدينك الذي يعمر، وأنشد:
* أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان * أي: عبادتك الله. وقال ابن الأعرابي: عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه أي عابد. قال: ويقال تركت
(٤٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 444 445 446 447 448 449 450 451 452 453 454 ... » »»