تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٤٤٨
فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلى امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقر لفلان: علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما. فأما في الآية فقد اختلف الحكان، لأن إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين، وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم، فأنى يكون استثناء من استثناء: انتهى. ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم، لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء. ومن قال: إنه استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين: أحدهما: أنه لما كان الضمير في لمنجوهم عائد على آل لوط، وقد استثنى منه المرأة، صار كأنه مستثنى من آل لوط، لأن المضمر هو الظاهر في المعنى. والوجه الآخر: أن قوله: إلا آل لوط، لما حكم عليهم بغير الحكم علي قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم، فجاء قوله: إنا لمنجوهم أجمعين تأكيدا لمعنى الاستثناء، إذ المعنى إلا آل لوط، فلم يرسل إليهم بالعذاب، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير قولك: قام القوم إلا زيدا، فإنه لم يقم وإلا زيدا لم يقم. فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه، فإلا امرأته على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط، لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد.
وقرأ الأخوان: لمنجوهم بالتخفيف، وباقي السبعة بالتشديد. وقرأ أبو بكر: قدرنا بالتخفيف، وباقي السبعة بالتشديد، وكسرت إنها إجراء لفعل التقدير مجرى العلم، إما لكونه بمعناه، وإما لترتبه عليه. وأسندوا التقدير إليهم، ولم يقولوا: قدر الله، لأنهم هم المأمورون بإهلاكهم كما يقول من يلوذ بالملك ومن هو متصرف بأوامره: أمرنا بكذا، والآمر هو الملك. وقال الزمخشري: لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم انتهى. فأدرج مذهب الاعتزال في تفضيل الملائكة في غضون كلامه، ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم، وخاف أن يطرقوه بشر. وبل إضراب عن قول محذوف أي: ما جئناك بشيء تخافه، بل جئناك بالعذاب لقومك، إذ كانوا يمترون فيه أي: يشكون في وقوعه، أو يجادلونك فيه تكذيبا لك بما وعدتهم عن الله. ويحتمل أن يكون نكرهم لكونهم ليسوا بمعروفين في هذا القطر، فخاف الهجوم منهم عليه، أو أن يتعرض إليهم أحد من قومه إذ كانوا في صورة شباب حسان مرد. وأتيناك بالحق أي: باليقين من عذابهم، وإنا لصادقون في الإخبار لحلوله بهم. وتقدم الخلاف في القراءة في فأسر. وروى صاحب الإقليد فسر من السير، وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني. وحكى القاضي منذر بن سعيد أن فرقة قرأت بقطع بفتح الطاء، وتقدم الكلام في القطع وفي الالتفات في سورة هود. وخطب الزمخشري هنا فقال: (فإن قلت): ما معنى أمره باتباع أدبارهم، ونهيهم عن الالتفات؟ (قلت): قد بعث الله الهلاك على قومه ونجاه وأهله، إجابة لدعوته عليهم، وخرج مهاجرا فلم يكن بد من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله، لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعا عليهم وعلى أهوالهم، فلا يفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحالة المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه، وليكون مسيره مسير الهارب الذي تقدم سريه وتفوت به.
وحيث تؤمرون قال ابن عباس: الشام. وقيل: موضع نجاة غير معروف. وقيل: مصر. وقيل: إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين. وحيث على بابها من أنها ظرف مكان، وادعاء أنها قد تكون هنا ظرف زمان من حيث أنه ليس في الآية أمر إلا قوله: فأسر بأهلك بقطع من الليل، ثم قيل له: حيث تؤمر ضعيف. ولفظ تؤمر يدل على خلاف ذلك، إذ كان يكون التركيب من حيث أمرتم، وحيث من الظروف المكانية المبهمة، ولذلك يتعدى إليها الفعل وهو: امضوا بنفسه، تقول: قعدت حيث قعد زيد، وجاء في الشعر دخول في عليها. قال الشاعر:
* فأصبح في حيث التقينا شريدهم * طليق ومكتوف اليدين ومرعف *
(٤٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 443 444 445 446 447 448 449 450 451 452 453 ... » »»