تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٧٨
وقرأ ابن وثاب: فنعم بفتح النون وسكون العين، وتخفيف فعل لغة تميميمة، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين، وهي أكثر استعمالا. قال مجاهد وغيره: ومن صلح أي عمل صالحا وآمن انتهى. وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع، إنما تنفع الأعمال الصالحة. وقيل: يحتمل قوله: ومن صلح أي: لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه. قال ابن عباس: هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم)، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة. والظاهر أن ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول. وقيل: يجوز أن يكون مفعولا معه أي: يدخلونها مع من صلح. ويشتمل قوله: من آبائهم، أبوي كل واحد والده ووالدته، وغلب الذكور على الإناث، فكأنه قيل: ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي: بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم. قال أبو بكر الوراق: هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة، من عملها دخلها من أي باب شاء. قال الأصم: نحو هذا قال: من كل باب باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الصبر. ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر: أن الملائكة طوائف منهم روحانيون، ومنهم كروبيون، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى. وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب، ولا جاءت به الأنبياء، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون. قال ابن عطية: وحكى الطبري رحمه الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى.
* وارتفع سلام على الابتداء، وعليكم الخبر، والجملة محكية بقول محذوف أي: يقولون سلام عليكم. والظاهر أن قوله تعالى: سلام عليكم تحية الملائكة لهم، ويكون قوله تعالى: بما صبرتم، خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق، أو تكون الباء بمعنى بدل أي: بدل صبركم أي: بدل ما احتملتم من مشاق الصبر، هذه الملاذ والنعم. وقيل: سلام جمع سلامة أي: إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا. وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق بسلام أي: يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم، والمخصوص بالمدح محذوف أي: فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم، والدار: تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة. وقالت فرقة: المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم. قال ابن عطية: وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو: أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له: (هذا مكان مقعدك، فبدلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك) انتهى. ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد، ولا بغير ذلك.
* (فنعم عقبى الدار والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الارض أولئك لهم) *: قال مقاتل نزلت: والذين ينقضون في أهل الكتاب. وقال ابن عباس: نزلت الله يبسط في مشركي مكة، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية. وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي الجنة، وإكرام الملائكة لهم بالسلام، وذلك غاية
(٣٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 373 374 375 376 377 378 379 380 381 382 383 ... » »»