تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٠٦
ومن الصاغرين: من الأذلاء، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة. وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وأقامت عذرها عند النسوة، فرقت عليه، فتوعدته بالسجن. وقال له النسوة: أطع وافعل ما أمرتك به، فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه. فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها، ونهينه عن الفاء نفسه في السجن والصغار، فالتجأ إلى الله تعالى. والتقدير: دخول السجن. وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والزهري، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي: حبسهم إياي في السجن أحب إلي وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شران، فآثر أحد الشرين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة، ولم يخطر له ببال. ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله، والصبر على النوائب، وانتظار الفرج، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعيا له في تخليصه. آثره ثم ناط العصمة بالله، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو، فقال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي: أمل إلى ما يدعونني إليه. وجعل جواب الشرط قوله: أصب، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط، لا بمباشرة المعصية. وقرئ أصب إليهن من صببت صباة فأنا صب، والصبابة إفراط الشوق، كأنه ينصب فيما يهوي. وقراءة الجمهور: أصب من صبا إلى اللهو يصبو صبا وصبوا، ويقال: صبا يصبا صبا، والصبا بالكسر اللهو واللعب. وأكن من الجاهلين من الذين لا يعلمون، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء لأن الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة. قال الشاعر:
* إحدى بليلي وما هام الفؤاد بها * إلا السفاه وإلا ذكرة حلما وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله: وإلا تصرف عني، فيه معنى طلب الصرف والدعاء، وكأنه قال: رب اصرف عني كيدهن، فصرف عنه كيدهن أي: حال بينه وبين المعصية. إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم. ثم بدا لهم أي: ظهر لهم، والفاعل لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي: بدا لهم هو أي رأى أو بدا. كما قال:
بدا لك من تلك القلوص بداء * هكذا قاله النحاة والمفسرون، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة، فإنه زعم أن قوله: ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي: سجنه حتى حين، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو. والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله: ليسجنن، أو من قوله: السجن على قراءة الجمهور، أو
(٣٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 301 302 303 304 305 306 307 308 309 310 311 ... » »»