تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٩٧
وقيل: مع ابن عم المرأة. وفي الكلام حذف تقديره: فرابه أمرهما وقال: ما لكما؟ فلما سأل وقد خافت لومه، أو سبق يوسف بالقول، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين تبرئة ساحتها من الريبة، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعا في مواقعتها خيفة من مكرها، كرها لما آيست أن يواقعها طوعا ألا ترى إلى قولها: ولئن لم يفعل ما آمره ليسجن؟ ولم تصرح باسم يوسف، بل أتت بلفظ عام وهو قولها: ما جزاء من أراد، وهو أبلغ في التخويف. وما الظاهر أنها نافية، ويجوز أن تكون استفهامية أي: أي شيء جزاؤه إلا السجن؟ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها، ثم ترقت إلى العذاب الأليم، قيل: وهو الضرب بالسوط. وقولها: ما جزاء أي: إن الذنب ثابت متقرر في حقه، وأتت بلفظ بسوء أي: بما يسوء، وليس نصا في معصية كبرى، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها، أو ضربه إياها. وقوله: إلا أن يسجن أو عذاب، يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم.
وقرأ زيد بن علي: أو عذابا أليما، وقدره الكسائي أو يعذب عذابا أليما. ولما أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال: هي راودتني عن نفسي، ولم يسبق إلى القول أولا سترا عليها، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال: هي، وأتى بضمير الغيبة، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعينها بالإشارة فيقول: هذه راودتني، أو تلك راودتني، لأكن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة. ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلا فيه إناءة ونصفة، طلب الشاهد من كل منهما، فشهد شاهد من أهلها. فقال أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وهلال بن يساف، والضحاك: كان ابن خالتها طفلا في المهد أنطقه الله تعالى ليكون أدل على الحجة. وروي في الحديث: * (إنه من * نكلم من كان فى المهد) * وأسنده الطبري. وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء) وقيل: كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب، ولا ينافي هذا قول قتادة، كان رجلا حليما من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره. وقيل: كان حكما حكمه زوجها فحكم بينهما، وكان الشاهد من أهلها ليكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة. ويحتمل أن يكون معهما في الدار بحيث لا يشعر به، فبصر بما جرى بينهما، فأغضبه الله ليوسف، وشهد بالحق. ويبعد قول مجاهد وابن حبيب أن الشاهد هو القميص المقدود لقوله: شاهد من أهلها، ولا يوصف القميص بكونه شاهدا من أهل المرأة. وسمى الرجل شاهدا من حيث دل على الشاهد، وهو تخريق القميص. وقال الزمخشري: سمى قوله شهادة لأنه أدى تأديتها في ثبت قول يوسف وبطل قولها، وإن كان قميصه محكي إما بقال مضمرة على مذهب البصريين، وإما بشهد، لأن الشهادة قول من الأقوال على مذهب الكوفيين. وكان هنا دخلت عليها أداة الشرط، وتقدم خلاف المبرد والجمهور فيها، هل هي باقية على مضيها ولم تقلها أداة الشرط؟ أو المعنى: أن يتبين كونه. فأداة الشرط في الحقيقة إنما دخلت على هذا المقدر. وجواب الشرط فصدقت وفكذبت، وهو على إضمار قد أي: فقد صدقت، وفقد كذبت. ولو كان فعلا جامدا أو دعاء لم يحتج إلى تقدير قد.
وقرأ الجمهور: من قبل، ومن دبر، بضم الباء فيهما والتنوين. وقرأ الحسن وأبو عمر، وفي رواية: بتسكينها وبالتنوين، وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، ونوح القارئ، والجار ودبن أبي سبرة بخلاف عنه: من قبل، ومن دبر، بثلاث سمات. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجارود أيضا في رواية عنهم: بإسكان الباء مع بنائهما على الضم، جعلوها غاية نحو: من قبل. ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما لأنهما اسمان
(٢٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 292 293 294 295 296 297 298 299 300 301 302 ... » »»