تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٧١
تهتد، وهذا نحو قوله: * (خامدون ياحسرة على العباد) * والقرون: قوم نوح، وعاد، وثمود، ومن تقدم ذكره. والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين، وسمي الفضل والجود بقية، لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا في الجودة والفضل. فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبه فسر بيت الحماسة: إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم. ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. وإنما قيل: بقية لأن الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها، ثم لا تزال تضعف، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول. وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوي، كالتقية بمعنى التقوى أي: فلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه. وقرأت فرقة: بقية بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي، نحو: شجيت فهي شجية. وقرأ أبو جعفر، وشيبة: بقية بضم الباء وسكون القاف، وزن فعله. وقرئ: بقية على وزن فعله للمرة من بقاه يبقيه إذا رقبه وانتظره، والمعنى: فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم. والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر. إلا قليلا استثناء منقطع أي: لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، ولا يصح أن يكون استثناء متصلا مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى، وصيرورته إلى أن الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد. والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب، وغيره يراه منفيا من حيث معناه: أنه لم يكن فيهم أولو بقية، ولهذا قال الزمخشري بعد أن منع أن يكون متصلا: (فإن قلت): في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولوا بقية إلا قليلا، كان استثناء متصلا، ومعنى صحيحا، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرجع على البدل انتهى. وقرأ زيد بن علي: إلا قليل بالرفع، لحظ أن التحضيض تضمن النفي، فأبدل كما يبدل في صريح النفي. وقال الفراء: المعنى فلم يكن، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد، وأبي الأخفش كون الاستثناء منقطعا، والظاهر أن الذين ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد. وما أترفوا فيه أي: ما نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم. واتبع استئناف أخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا، وأخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا مجرمين أي: ذوي جرائم غير ذلك. وقال الزمخشري: إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفا على مضمر، لأن المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه: واتبعوا جزاء الإتراف. قالوا وللحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقال: وكانوا مجرمين، عطف على أترفوا، أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام انتهى. فجعل ما في قوله: ما أترفوا، فيه مصدرية، ولهذا قدره: اتبعوا الإتراف، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها. وأجاز أيضا أن يكون معطوفا على اتبعوا أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. قال: ويجوز أن يكون اعتراضا وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمون انتهى. ولا يسمى هذا اعتراضا في اصطلاح النحو، لأنه آخر آية، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر. وقرأ جعفر بن محمد، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب اللوامح،
(٢٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 266 267 268 269 270 271 272 273 274 275 276 ... » »»