تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٤٢
حالة الرخاء. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ (قلت): لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، والظن للهلاك، والدعاء للانجاء انتهى. وهو حسن، وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء: في الفلكي بزيادة ياء النسب، وخرج ذلك على زيادتها، كما زادوها في الصفة في نحو: أحمري وزواري، وفي العلم كقول الصلتان: أنا الصلتاني الذي قد علمتم. وعلى إرادة النسب مراد به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفردا وجمعا، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك. وهو التفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة. وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى. والذي يظهر والله أعلم أن حكمة الالتفات هنا هي أن قوله: هو الذي يسيركم في البر والبحر، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر. ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أن الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق، عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي. وقال ابن عطية: بهم خروج من الحضور إلى الغيبة، وحسن ذلك لأن قوله: كنتم في الفلك، هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى، فكأنه قدر مفردا غائبا يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى: * (أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه) * أي، أو كذي ظلمات، فعاد الضمير غائبا على اسم غائب، فلا يكون ذلك من باب الالتفات. والباء في بهم وبريح قال العكبري: تتعلق الباآن بجرين انتهى. والذي يظهر أن الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو: مررت بزيد. وأن الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب، فاختلف المدلول في البائين، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد، ويجوز أن تكون الباء للحال أي: وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة، فتتعلق بمحذوف كما تقول: جاء زيد بثيابه أي ملتبسا بها. وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: وجرين بهم، ويحتمل أن يكون حالا أي: وقد فرحوا بها. كما احتمل قوله: وجرين أن يكون معطوفا على كنتم، وأن يكون حالا. والظاهر أن قوله: جاءتها ريح عاصف، هو جواب إذا. والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك، لأنه هو المحدث عنه في قوله: وجرين بهم، وقاله مقاتل. وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء، وبدأ به الزمخشري. ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة.
وقرأ ابن أبي عبلة: جاءتهم، ومعنى من كل من أمكنة الموج. والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين. وقيل: معناها التيقن، ومعنى أحيط بهم أي للهلاك، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك. وقرأ زيد بن علي: حيط بهم ثلاثيا والجملة من قوله: دعوا الله قال أبو البقاء: هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره: لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى، وهو كلام لا يتحصل منه شيء. وقال الطبري: جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف، وجواب قوله: وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى. وهو مخالف للظاهر، لأن قوله: وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا، لأنه معطوف على كنتم، لكنه محتمل. كما تقول: إذا زارك فلان
(١٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 137 138 139 140 141 142 143 144 145 146 147 ... » »»