تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٣٩
يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم، كما جاءوا يعبدون وأنهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي.
* (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك * لقضى بينهم * فيما فيه يختلفون) *: لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس، والظاهر عموم الناس. ويتصور في آدم وبينه إلى أن وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر، وقاله: أبي بن كعب. وقال الضحاك: المراد أصحاب سفينة نوح، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام. وعن ابن عباس: من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه السلام الأصنام كود، وسواغ. وحكى ابن القشيري أن الناس قوم إبراهيم إلى أن غير الدين عمرو بن لحي. وقال ابن زيد: هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم: * (ألست بربكم) * لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم. وقال الأصم: هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ، وأبعد من ذهب إلى أن المراد بالناس هنا آدم وحده، وهو مروي عن: مجاهد، والسدي، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير. وهذه الأقوال هي على أن المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان. وقيل: في الشرك. وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر، فآمن بعضهم، واستمر بعضهم على الكفر. أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم) فآمن بعضهم، أو العرب خاصة، أقوال ثالثها للزجاج. والظاهر أن المراد بقوله: أمة واحدة في الإسلام، لأن هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام، فلا يناسب أن يقوي عباد الأصنام. فإن الناس كانوا على ملة الكفر، إنما المناسب أن يقال: إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه. وأيضا فقوله: ولولا كلمة، هو وعيد، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو الاختلاف، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر، هو المقتضي للوعيد، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان، إذ لا يصلح أن يكون سببا للوعيد، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله: * (كان الناس أمة واحدة) * ولكن أعدنا الكلام فيه لبعده.
والكلمة هنا هو القضاء، والتقدير: لبني آدم بالآجال المؤقتة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة، وأن العقاب والثواب إنما يكون حينئذ. وقال الزمخشري: هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلا فيما اختلفوا فيه، وتمييز المحق من المبطل. وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب. وقال الكلبي: الكلمة أن الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب، أو بإقامة الساعة. وقيل: الكلمة السابقة أن لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل. وقيل: الكلمة قوله: * (سبقت * رحمتى * غضبى) * ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة.
* (ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) *: هذا من اقتراحهم. قال الزمخشري: وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم تنزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات. وجعلوا نزولها كلا نزول، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغي فقل: إنما الغيب لله أي: هو المختص بعلم الغيب المستأثر به، لا علم لي ولا لا حد به. يعني: أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه، فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات. وقال ابن عطية: آية من ربه، آية تضطر الناس إلى الإيمان، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط، ولا من المعجزات اضطرارية، وإنما هي معرضة النظر ليهتدي قوم ويضل آخرون، فقل: إنما الغيب لله إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد. وقوله: فانتظروا، ووعيد وقد صدقه الله تعالى بنصرته محمدا صلى الله عليه وسلم). وقيل: الآية التي اقترحوا أن ينزل ما تضمنه قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا * الاية) * وقيل: آية كآية موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء، وإحياء الموتى، طلبوا ذلك على سبيل
(١٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 134 135 136 137 138 139 140 141 142 143 144 ... » »»