تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٣٧
لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف، وعلقه بمطلق العصيان، فبأدنى عصيان ترتب الخوف.
* (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) *: هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي: إن تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة الله تعالى وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتابا فصيحا يبهر كلام كل فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع، وإخبار ما كان وما يكون، ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفا من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به. ومفعول شاء محذوف أي: قل لو شاء الله أن لا أتلوه، وجاء جواب * (لو) * على الفصيح من عدم إتيان اللام، لكونه منفيا بما، ويقال: دريت به، وأدريت زيدا به، والمعنى: ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه: ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي، والمعنى: ولأعلمكم به من غير طريقي وعل لسان غيري، ولكنه يمن على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون الناس.
وقراءة الجمهور: ولا أدراكم به فلا مؤكدة، وموضحة أن الفعل منفي لكونه معطوفا على منفي، وليست لا هي التي نفي الفعل بها، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جوابا، والمعطوف على الجواب جواب. وأنت لا تقول: لو كان كذا لا كان كذا، إنما يكون ما كان كذا. وقرأ ابن عباس، وابن سيرين، والحسن، وأبو رجاء: ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما: أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة عل لغة من قال: لبأت بالحج، ورثأت زوجي بأبيات، يريد: لبيت ورثيت. وجاز هذا البدل لأن الألف والهمزة من واد واحد، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم، وفي المشتاق المشتأق. والوجه الثاني: أن الهمزة أصل وهو من الدرء، وهو الدفع يقال: درأته دفعته، كما قال: * (ويدرؤا عنها العذاب) * ودرأته جعلته دارئا، والمعنى: ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني. وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم، فقلب الياء ألفا لا نفتاح ما قبلها، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك: أعطأتك. وقال أبو حاتم: قلب الحسن الياء ألفا كما في لغة بني الحرث بن كعب السلام علاك، قيل: ثم همز على لغة من قال في العالم العألم. وقرأ شهر بن حوشب والأعمش، ولا أندرتكم به بالنون والذال من الإنذار، وكذا هي في حرف ابن مسعود، ونبه على أن ذلك وحي من الله تعالى بإقامته فيهم عمرا وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعا وكهلا، لم تجربوني في كذب، ولا تعاطيت شيئا من هذا، ولا عانيت اشتغالا، فكيف أتهم باختلاقه؟ أفلا تعقلون أن من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم، ولا تلمذ، ولا مطالعة كتاب، ولا مراس جدال، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد، ولا يكون إلا محقا فيما أتى به مبلغا عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به؟ كما جاء في حديث هرقل: هل جربتم عليه كذبا؟ قال: لا فقال: لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على الله. وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو، وأظهرها باقي السبعة. وقرأ الأعمش: عمرا بإسكان الميم، والظاهر وعود الضمير في من قبله على القرآن. وأجاز الكرماني أن يعود على التلاوة، وعلى النزول، وعلى الوقت يعني: وقت نزوله.
* (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) *: تقدم تفسير مثل هذا الكلام، ومساقه هنا باعتبارين: أحدهما: أنه لما قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذبا كما قال: فمن
(١٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 132 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 ... » »»