تظهر القوة العملية، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل. فخلوا سبيلهم، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر:
* خل السبيل لمن يبنى المنار به أو يكون المعنى: فأطلقوهم من الأسر والحصر. والظاهر الأول، لشمول الحكم لمن كان مأسورا وغيره.
* وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا، وأبى الله أن لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ودفن في مقابر الكفار، وكان ماله فيئا. ومن ترك السنن فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير رادا على النبي صلى الله عليه وسلم) ما جاء به وأخبر عنه انتهى. والظاهر أن مفهوم الشرط لا ينتهض أن يكون دليلا على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمدا غير مستحل ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره، فلا يتعين القتل. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مكحول، ومالك، والشافعي، وحماد بن زيد، ووكيع، وأبو ثور: يقتل. وقال ابن شهاب، وأبو حنيفة، وداود: يسجن ويضرب، ولا يقتل. وقال جماعة من الصحابة والتابعين: يقتل كفرا، وماله مال مرتد، وبه قال إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم) إلى زماننا.
* (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذالك بأنهم قوم لا يعلمون) * قال الضحاك والسدي: هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين. وقال الحسن ومجاهد: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن ابن جبير: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا، لأن الله تعالى قال: وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى. وقيل: هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا، والظاهر أنها محكمة. ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشدا طالبا للحجة والدلالة على ما يدعوا إليه من الدين. فالمعنى: وإن أحد من المشركين استجارك، أي طلب منك أن تكون مجيرا له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد، ويقف على ما بعثت به، فكن مجيرا له حتى يسمع كلام الله ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إن لم يسلم، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة. وحتى يصح أن تكون للغاية أي: إلى أن يسمع. ويصح أن تكون للتعليل، وهي متعلقة في الحالين بأجره. ولا يصح أن يكون من باب التنازع، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقا باستجارك أو بفأجره، وذلك لمانع لفظي وهو: أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، وحتى لا تجر المضمر، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع. لكن من ذهب من النحويين إلى أن حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور. ولما كان القرآن أعظم المعجزات، علق السماع به، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم. وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك: أنت لم تسمع، تريد لم تفهم. وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه. وقيل: مأمنه مصدر، أي ثم أبلغه أمنه. وقد استدلت المعتزلة بقوله: (حتى يسمع كلام الله) على حدوث كلام الله، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات. ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك، وهذا مذكور في علم الكلام.
وفي هذه الآية دلالة على أن النظر في التوحيد أعلى المقامات، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه. ومنها دلالة على أن التقليد غير كاف في الدين، إذ كان لا يمهل بل