تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٢
وقد قتل أبو بكر أصحاب الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة، وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار. وتعلق بعموم هذه الآية، وأحرق علي قوما من أهل الردة، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المثلة. ولفظ المشركين عام في كل مشرك، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب، ومن قاتل من هؤلاء قتل. وقال الزمخشري: يعني الذي نقصوكم وظاهروا عليكم. ولفظ: (حيث وجدتموهم) عام في الأماكن من حل وحرم. (وخذوهم) عبارة عن الأسر، والأخيذ الأسير. ويدل على جواز أسرهم: واحصروهم، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وقيل: استرقوهم. وقيل: معناه حاصروهم إن تحصنوا. وقرئ: فحاصروهم شاذا، وهذا القول يروى عن ابن عباس. وعنه أيضا: حولوا بينهم وبين المسجد الحرام. وقيل: امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن. قال القرطبي في قوله: (واقعدوا لهم كل مرصد) دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة، لأن المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة، وهذا تنبيه على أن المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق، إما بطريق القتال، وإما بطريق الاغتيال. وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب، وإسلال خيلهم، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام، إلا أن يصالحوا على مثل ذلك.
قال الزمخشري: (كل مرصد) كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه، وانتصابه على الظرف كقوله: * (لاقعدن لهم صراطك المستقيم) * انتهى. وهذا الذي قاله الزجاج قال: كل مرصد ظرف، كقولك: ذهبت مذهبا ورده أبو علي، لأن المرصد المكان الذي يرصد فيه العدو، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعا كما حكى سيبويه: دخلت البيت، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى. وأقول: يصح انتصابه على الظرف، لأن قوله: (واقعدوا لهم) ليس معناه حقيقة القعود، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه، ولما كان بهذا المعنى جاز قياسا أن يحذف منه في كما قال: وقد قعدوا منها كل مقعد.
فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملا من لفظه أو من معناه، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز جلست مجلس زيد، وقعدت مجلس زيد، تريد في مجلس زيد. فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه، فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش: معناه على كل مرصد، فحذف وأعمل الفعل، وحذف على، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه، يخصه أصحابنا بالشعر. وأنشدوا:
* تحن فتبدي ما بها من صبابة * وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني * أي لقضي علي.
* (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم) * أي عن الكفر والغدر. والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية، وبهما
(١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 ... » »»