تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١١
عهدهم. وعنه أيضا: إلى مدتهم، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية. وهذا بعيد، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقص وعدم المظاهرة.
وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة، وأبو زيد، وابن السميفع: ينقضوكم بالضاد معجمة وتناسب العهد، وهي بمعنى قراءة الجمهور، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب. وهو على حذف مضاف، أي ولم ينقضوا عهدكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني: هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد، إلا أن القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله: فأتموا إليهم. والتمام ضد النقص. وانتصب شيئا على المصدر، أي: لا قليلا من النقص ولا كثيرا، ولم يظاهروا عليكم أحدا كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتوا بإلى لتضمنه معنى فأدوا، أي: فأدوه تاما كاملا. وقول قتادة: إن المستثنين هم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله. وقوله: يحب المتقين، تنبيه على أن الوفاء العهد من التقوى، وأن من التقوى أن لا يسوي بين القبيلتين.
* (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) * تقدم الكلام على انسلخ في قوله: فانسلخ. وقال أبو الهيثم: يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباسا منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءا حتى نسلخه عن أنفسنا كله، فينسلخ. وأنشد:
* إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله * كفي قاتلا سلخ الشهور وإهلال * والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها.
وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أن تذكر بالضمير نحو: لقيت رجلا فضربته. ويجوز أن يعاد اللفظ معرفا بل نحو: لقيت رجلا فضربت الرجل، ولا يجوز أن يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت: لقيت رجلا فضربت الرجل الأزرق، وأنت تريد الرجل الذي لقيته، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره، ويكون المضروب غير الملقى. فإن وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو: لقيت رجلا فضربت الرجل المذكور. وهنا جاء الأشهر الحرم، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها، فليس الحرم وصفا مشعرا بالمغايرة. وقيل: الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السماوات والأرض، وهي التي جاء في الحديث فيها (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب) فتكون الأربعة من سنتين. وقيل: أولها المحرم، فتكون من سنة. وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا. وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان،
(١١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 ... » »»