تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٤ - الصفحة ٤٧١
الموبقات وعد فيها الفرار من الزحف وفي التحرير التولي الذي وقع عليه الوعيد هو الفرار مع المصابرة على الثبات فأما إذا جاءه من لا يستطيع معه الثبات فليس ذلك بالفرار انتهى. وما أحسن ما استعذر الحارث بن هشام إذ فر فقيل فيه:
* ترك الأحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طمره ولجام * وقال الحرث من أبيات:
* وعلمت أني إن أقاتل واحدا * أقتل ولم يضرر عدوي مشهدي * واستدل القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفساق من أهل الصلاة لأنها دلت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم. قال: وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار كما فعلوا في آيات الوعيد لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة وهو قوله يا أيها الذين آمنوا انتهى، ولا حجة في ذلك لأنه عام مخصوص والظاهر أنه يجوز التحيز سواء عظم العسكر أم لا، وقيل لا يجوز إذا عظم والظاهر أن الفرار من الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ولذلك قال ابن القاسم لا تقبلوا شهادة من فر من الزحف وإن فر أمامهم ومنن فر فليستغفر الله ففي الترمذي: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفر له وإن كان قد فر من الزحف.
* (فلم تقتلوهم ولاكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولاكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله) * لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل قتلت وأسرت فنزلت. قال الزمخشري: والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع انتهى، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان كان امتثال ما أمروا به سببا للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأن الأقدار عليه والخالق له إنما هو الله ليس للقاتل فيها شيء لكنه أجرى على يده فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبت لله وفي ذلك رد على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم، ومجئ لكن هنا أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت لله هو المنفي عنهم وهو حقيقة القتل ومن زعم أن أفعال العباد مخلوقة لهم أول الكلام على معنى فلم يتسببوا لقتلكم إياهم ولكن الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة إلى آخر كلامه، وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفية يلم لأن لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع لأن لنفي الماضي طريقين إحداهما أن تدخل ما على لفظه والأخرى أن تنفيه بلم فتأتي بالمضاع والأصل هو الأول لأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب وفي الجملة مبالغة من وجهين أحدهما أن النفي جاء على حسب الإيجاب لفظا؛ الثاني إن نفي ما صرح بإثباته وهو قوله وما رميت إذ رميت ولم يصرح في قوله فلم تقتلوهم بقوله إذ قتلتموهم وإنما بولغ في هذا لأن الرمي كان أمرا خارقا للعادة معجزا آية من آيات الله على أي وجه فسر الرمي لأنهم اختلفوا فيه، فقال ابن عباس قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوم بدر قبضة من تراب فقال شاهت الوجوه أي قبحت فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفيه
(٤٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 466 467 468 469 470 471 472 473 474 475 476 ... » »»