تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٣٦
فاصطادوا) * تضمن آخر قوله: أحلت لكم تحريم الصيد حالة الإحرام، وآخر قوله: لا تحلوا شعائر الله، النهي عن إحلال آمي البيت، فجاءت هذه الجملة راجعا حكمها إلى الجملة الأولى، وجاء ما بعدها من قوله: * (ولا يجرمنكم) * راجعا إلى الجملة الثانية، وهذا من بليغ الفصاحة. فليست هذه الجملة اعتراضا بين قوله: ولا آمين البيت الحرام، وقوله: ولا يجرمنكم، بل هي مؤسسة حكما لا مؤكدة مسددة فتكون اعتراضا، بل أفادت حل الاصطياد في حال الإحرام. ولا تقديم ولا تأخير هنا، فيكون أصل التركيب: ولا آمين البيت الحرام بيتغون فضلا من ربهم ورضوانا ولا يجرمنكم، كما ذهب إليه بعضهم وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة، فقال: وجه النظر أن يقال: * (وإذ قتلتم نفسا) * الآية ثم يقال: * (وإذ قال موسى لقومه) * وكثيرا ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر، وهو من أقبح الضرائر، فينبغي بل يجب أن ينزه القرآن عنه.
قال: والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله، وإنما رتبوه على تقارب المعاني وتناسق الألفاظ، وهذا الذي قاله ليس بصحيح، بل الذي نعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو الذي رتبه لا الصحابة، وكذلك نقول في سورة وإن خالف في ذلك بعضهم. والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع، ولهذا قال الزمخشري: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا انتهى. ولما كان الاصطياد مباحا، وإنما منع منه الإحرام، وإذا زال المانع عاد إلى أصله من الإباحة. وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر، وعليها إذا جاءت مجردة عن القرائن، وعلى ما تحمل عليه، وعلى واقع استعمالها، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه.
وقرئ: وإذا أهللتم بل هو كذلك انظر المخشري وهي لغة يقال: حل من إحرامه وأحل. وقرأ أبو واقد، والجراح، ونبيح، والحسن بن عمران: فاصطادوا بكسر الفاء. قال الزمخشري: قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقال ابن عطية: وهي قراءة مشكلة، ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت: اصطادوا بكسر الفاء مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل انتهى. وليس عندي كسرا محضا بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا الفاء في، فإذا لوجود كسرة إذا.
* (ولا يجرمنكم شنان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) * قال ابن عباس وقتادة: ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم، يقال: جرمني كذا على بغضك. فيكون أن تعتدوا أصله على أن تعتدوا، وحذف منه الجار. وقال قوم: معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني أي: اعتداؤكم عليكم. وتتعدى أيضا إلى واحد تقول: أجرم بمعنى كسب المتعدية لاثنين، يقال في معناها: جرم وأجرم. وقال أبو علي: أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب. وقرأ الحسن، وإبراهيم. وابن وثاب، والوليد عن يعقوب: يجرمنكم بسكون النون، جعلوا نون التوكيد خفيفة.
قال الزمخشري: والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم، لأن صدوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما، فيمتنع أن يكون: أن تعتدوا في محل مفعول به، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر.
وقرأ النحويان وابن كثير، وحمزة، وحفص، ونافع: شنآن بفتح النون. وقرأ ابن عامر وأبو بكر بسكونها، ورويت عن نافع. والأظهر في الفتح أن يكون مصدرا، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان، وجوزوا أن يكون وصفا وفعلان في الأوصاف موجود نحو قولهم: حمار قطوان أي: عسير السير، وتيس عدوان
(٤٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 431 432 433 434 435 436 437 438 439 440 441 ... » »»