الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالا من المأمورين بإيفاء العقود، أو من المحلل لهم، أو من المحلل وهو الله تعالى، أو من المتلو عليهم. وغرهم في ذلك كونه كتب محلى بالياء، وقدره هم أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة. وأصله: غير محلين الصيد وأنتم حرم، إلا في قول من جعله حالا من الفاعل المحذوف، فلا يقدر فيه حذف النون، بل حذف التنوين. وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله: محلى الصيد، من باب قولهم: حسان النساء. والمعنى: النساء الحسان، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل. والمحل صفة للصيد لا للناس، ولا للفاعل المحذوف. ووصف الصيد بأنه محل على وجهين: أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل كما تقول: أحل الرجل أي: دخل في الحل، وأحرم دخل في الحرم. والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حل، أي حلالا بتحليل الله. وذلك أن الصيد على قسمين: حلال، وحرام. ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال. ألا ترى إلى قول بعضهم: إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعا؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله:
* ليث بعثر يصطاد الرجال إذا * ما كذب الليث عن أقرانه صدقا * وقال آخر:
* وقد ذهبت سلمى بعقلك كله * فهل غير صيد أحرزته حبائله * وقال آخر:
* ومي تصيد قلوب الرجال * وأفلت منها ابن عمر وحجر * ومجئ أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب. فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم: أحرم الرجل، وأعرق، وأشأم، وأيمن، وأتهم، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها. ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: أعشبت الأرض، وأبقلت، وأغد البعير، وألبنت الشاة، وغيرها، وأجرت الكلبة، وأصرم النخل، وأتلت الناقة، وأحصد الزرع، وأجرب الرجل، وأنجبت المرأة. وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحل، أو صار ذا حل، اتضح كونه استثناء من استثناء، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم. لأن المستثنى من المحلل محرم، والمستثنى من المحرم محلل. بل إن كان المعنى بقوله: بهيمة الأنعام، الأنعام أنفسها، فيكون استثناء منقطا. وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها، فيكون استثناء متصلا على أحد تفسيري المحل، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين. (فإن قلت): ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟ (قلت): الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم، وإن كان حلالا لغيره، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله: حرمت عليكم الميتة الآية، استثناء منقطعا، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها،